الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } * { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } * { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } * { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } * { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }

قوله تعالى: { واضرب لهم مَثَلاً رجلين } روى عطاء عن ابن عباس، قال: هما ابنا ملك كان في بني إِسرائيل توفِّي وتركهما، فاتخذ أحدهما الجِنان والقصور، وكان الآخر زاهداً في الدنيا، فكان إِذا عمل أخوه شيئاً من زينة الدنيا، أخذ مثل ذلك فقدَّمه لآخرته، حتى نَفِد ماله، فضربهما الله عز وجل مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النعمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلم لما احتاج، تعرَّض لأخيه الكافر، فقال الكافر: أين ما ورثتَ عن أبيك؟ فقال: أنفقتُه في سبيل الله، فقال الكافر: لكني ابتَعت به جِناناً وغنماً وبقراً، والله لا أعطيتك شيئاً أبداً حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد المسلِم فأدخله جِنانه يطوف به فيها، ويرغِّبه في دينه. وقال مقاتل: اسم المؤمن يمليخا، واسم الكافر قرطس، وقيل: قطرس، وقيل: هذا المَثَل [ضُرِبَ] لعيينة بن حصن وأصحابه، ولسلمان وأصحابه.

قوله تعالى: { وحففناهما بنخل } الحَفّ: الإِحاطة بالشيء، ومنه قوله:حافِّين من حول العرش } [الزمر: 75]. والمعنى: جعلنا النخل مُطِيفاً بها. وقوله: { وجعلنا بينهما زرعاً } إِعلام أن عمارتهما كاملة.

قوله تعالى: { كِلتا الجنتين آتت أُكُلَها } قال الفراء: لم يقل: آتتا، لأن «كلتا» ثنتان لا تُفرد واحدتُهما، وأصله: «كُلٌّ»، كما تقول للثلاثة: «كُلٌّ»، فكان القضاء أن يكون للثنتين ما كان للجمع، وجاز توحيده على مذهب «كُلّ»، وتأنيثه جائز للتأنيث الذي ظهر في «كلتا»، وكذلك فافعل بـ «كلا» و«كلتا» و«كُلّ»، إِذا أضفتَهُنَّ إِلى مَعْرِفة وجاء الفعل بعدهن، فوحِّد واجمع، فمن التوحيد قوله تعالى:وكُلُّهم آتيه يوم القيامة فرداً } [مريم: 96]، ومن الجمع:وكُلٌّ أَتَوه داخرين } [النمل: 87]، والعرب قد تفعل ذلك أيضاً في «أي» فيؤنّثون ويذكِّرون، قال الله تعالى:وما تدري نفس بأي أرض تموت } [لقمان: 34]، ويجوز في الكلام «بأيت أرض»، وكذلكفي أيِّ صورة ما شاء ركبَّك } [الانفطار: 8]، ويجوز في الكلام «في أيَّت»، قال الشاعر:
بأي بلاءٍ أم بأيَّة نعمةٍ   تقدَّم قبلي مسلمٌ والمهلَّب
قال ابن الأنباري: «كلتا» وإِن كان واقعاً في المعنى على اثنتين، فإن لفظه لفظ واحدة مؤنثة، فغلب اللفظ، ولم يستعمل المعنى ثقةً بمعرفة المخاطَب به؛ ومن العرب من يؤثر المعنى على اللفظ، فيقول: «كلتا الجنتين آتت أُكُلَها»، ويقول آخرون: «كلتا الجنتين آتى أُكُلَه»، لأن «كلتا» تفيد معنى «كُلّ»، قال الشاعر:
وكلتاهما قد خطَّ لي في صَحيفتي   فلا الموت أهواه ولا العيش أروح
يعني: وكلُّهما قد خط لي، وقد قالت العرب: كلكم ذاهب، وكلكم ذاهبون. فوحَّدوا لِلَفظ «كُلّ» وجمعوا لتأويلها. وقال الزجاج: لم يقل «آتتا»، لأن لفظ «كلتا» لفظ واحدة، والمعنى: كل واحدة منهما آتت أكلها { ولم تظلم } أي: لم تنقص { منه شيئاً وفجرنا خلالهما نَهَراً } فأعلمَنَا أن شربهما كان من ماء نهر، وهو من أغزر الشرب.

السابقالتالي
2 3