الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } * { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }

قوله تعالى: { إِن أحسنتم } أي: وقلنا لكم إِن أحسنتم فأطعتُم الله { أحسنتم لأنفسكم } أي: عاقبةُ الطاعة لكم { وإِن أسأتم } بالفساد والمعاصي { فلها } وفيه قولان.

أحدهما: أنه بمعنى: فاِليها. والثاني: فعليها.

{ فإذا جاء وعد الآخرة } جواب «فاذا» محذوف، تقديرُه: فاذا جاء وعد عقوبة المرة الآخرة من إِفسادكم، بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم، وهذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريا، وقصدهم قتل «عيسى» فرُفِع، وسلَّط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبَوْهم، فذلك قوله: { ليسوؤوا وجوهكم }. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «ليسوؤوا» بالياء على الجميع والهمز بين الواوين، والإِشارة إِلى المبعوثين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «ليسوءَ وجوهكم» على التوحيد؛ قال أبو علي: فيه وجهان. أحدهما: ليسوءَ اللهُ عز وجل. والثاني: ليسوء البَعْثُ. وقرأ الكسائي: «لنسوءَ» بالنون، وذلك راجع إِلى الله تعالى.

وفيمن بَعث عليهم في المرة الثانية قولان.

أحدهما: بختنصر، قاله مجاهد، وقتادة. وكثير من الرواة يأبى هذا القول، ويقولون: كان بين تخريب «بختنصر» بيت المقدس، وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل.

والثاني: انطياخوس الرومي، قاله مقاتل. ومعنى { ليسوؤوا وجوهكم } أي: ليُدخِلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسَبْيِكُم؛ وخصت المساءاة بالوجوه، والمراد: أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة.

قوله تعالى: { وليدخلوا المسجد } يعني: بيت المقدس { كما دخلوه } في المرة الأولى { وليُتَبِّروا } أي: ليدمِّروا ويخرِّبوا. قال الزجاج: يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب: تِبر. ومعنى { ما علَوا } أي: ليدمِّروا في حال علوِّهم عليكم.

قوله تعالى: { عسى ربكم أن يرحمكم } هذا مما وُعِدوا به في التوراة. و«عسى» من الله واجبة، فرحمهم [الله] بعد انتقامه منهم، وعمر بلادهم، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة. { وإِن عدتم } إِلى معصيتنا { عُدنا } إِلى عقوبتكم. قال المفسرون: ثم إِنهم عادوا إِلى المعصية، فبعث الله عليهم ملوكاً من ملوك فارس والروم. قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فهم في عذاب إِلى يوم القيامة، فيعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.

قوله تعالى: { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } فيه قولان.

أحدهما: سجناً، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة. وقال مجاهد: يحصرون فيها. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: محبساً، وقال الزجاج: «حصيراً»: حبساً، أخذ من قولك: حصرت الرجل، إِذا حبسته، فهو محصور، وهذا حصيره، أي: محبسه، والحصير: المنسوج، سمي حصيراً، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، ويقال للجَنْب: حصير، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض. وقال ابن الأنباري: حصيراً: بمعنى: حاصرة، فصرف من حاصرة إِلى حصير، كما صرف «مؤلم» إِلى أليم.

والثاني: فراشاً ومهاداً، قاله الحسن. قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكون جهنم لهم مهاداً بمنزلة الحصير، والحصير: البساط الصغير.