الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } * { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } * { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } * { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } * { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }

قوله تعالى: { وبالحق أنزلناه } الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدِّين المستقيم، فهو حَقٌّ، ونزوله حق، وما تضمنه حق. وقال أبو سليمان الدمشقي: «وبالحق أنزلناه» أي: بالتوحيد، «وبالحق نزل» يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي.

قوله تعالى: { وقرآنا فَرَقناه } قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: «فرَّقناه» بالتشديد. وقرأ الجمهور بالتخفيف.

فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال.

أحدها: بيَّنَّا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، [قاله الحسن].

والثالث: أحكمناه وفصَّلناه، كقوله تعالى:فيها يُفرَق كُلُّ أمر حكيم } [الدخان: 4]، قاله الفراء. وأما المشددة، فمعناها: أنه أُنزل متفرِّقاً، ولم ينزل جملة واحدة. وقد بيَّنَّا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها. قوله تعالى: { لتقرَأَه على الناس على مُكْثٍ } قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاءٍ، وأبان عن عاصم، وابن محيصن: بفتح الميم؛ والمعنى: على تُؤدة وترسُّل ليتدبَّروا معناه.

قوله تعالى: { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } هذا تهديد لكفار [أهل] مكة، والهاء كناية عن القرآن. { إِن الذين أوتوا العلم } وفيهم ثلاثة أقوال.

أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد.

والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد.

والثالث: طلاب الدِّين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد ابن عمرو، قاله الواحدي.

وفي هاء الكناية في قوله: { من قبله } قولان.

أحدهما: أنها ترجع إِلى القرآن، والمعنى: من قبل نزوله.

والثاني: ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد. فعلى الأول { إِذا يتلى عليهم } القرآن. وعلى قول ابن زيد { إِذا يتلى عليهم } ما أُنزل إِليهم من عند الله.

قوله تعالى: { يَخِرُّون للأذقان } اللام هاهنا بمعنى «على». قال ابن عباس: قوله «للأذقان» أي: للوجوه. قال الزجاج: الذي يَخِرُّ وهو قائم، إِنما يَخِرُّ لوجهه، والذَّقْن: مُجْتَمع الَّلحيَين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يَخِرُّ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرضَ من الذي يَخِرُّ قبل أن يصوِّب جبتهه ذقنُه، فلذلك قال: «للأذقان». ويجوز أن يكون المعنى: يَخِرُّون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يُكتفى بالبعض من الكُلِّ، وبالنوع من الجنس.

قوله تعالى: { ويقولون سبحان ربِّنا } نزَّهوا الله تعالى عن تكذيب المكذِّبين بالقرآن، وقالوا: { إِن كان وعد ربنا } بإنزال القرآن وبعثِ محمد صلى الله عليه وسلم { لمفعولاً } واللام دخلت للتوكيد. وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعثٌ نبيّاً من العرب، ومُنزِلٌ عليه كتاباً، فلما عاينوا ذلك، حمدوا الله تعالى على إِنجاز الوعد، { ويَخِرُّون للأذقان } كرَّر القول ليدل على تكرار الفعل منهم. { ويزيدهم خشوعاً } أي: يزيدهم القرآن تواضعاً. وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم ما لا يُبكيه، لَخليق أن لا يكون أوتيَ علماً ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: { إِن الذين أوتوا العلم... } إِلى قوله: «يبكون».