الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } * { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

قوله تعالى: { وأوحى ربك إِلى النحل } في هذا الوحي قولان:

أحدهما: أنه إِلهام، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك، ومقاتل.

والثاني: أنه أمر، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى ابن مجاهد عن أبيه قال: أَرسل إِليها. والنحل: زنابير العسل، واحدتها نحلة. و «يَعرِشون» يجعلونه عريشاً. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «يَعْرُشُون» بضم الراء، وهما لغتان، يقال: «يعرِش» و { يعرُش } مثل { يعكِف } { ويعكُف }. ثم فيه قولان:

أحدهما: ما يعرشون من الكروم، قاله ابن زيد.

والثاني: أنها سقوف البيوت، قاله الفراء. وقال ابن قتيبة: كل شيء عُرِش، من كرم، أو نبات، أو سقف، فهو عَرْش، ومعروش. وقيل: المراد ب { مما يعرشون }: مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها العسل، ولولا التسخير، ما كانت تأوي إِليها.

قوله تعالى: { ثم كلي من كل الثمرات } قال ابن قتيبة: أي: من الثمرات، و«كلُّ» هاهنا ليست على العموم، ومثله قوله:تدمِّر كل شيء } [الأحقاف: 25]. قال الزجاج: فهي تأكل الحامض، والمرَّ، ومالا يوصَف طعمه، فيُحيل الله عز وجل من ذلك عسلاً.

قوله تعالى: { فاسلُكي سُبُل رَبِّكِ } السُّبُل: الطُّرُق، وهي التي يطلب فيها الرعي. «والذُّلُل» جمع ذَلول. وفي الموصوف بها قولان:

أحدهما: أنها السُّبُل، فالمعنى: اسلكي السُّبُل مُذَلَّلَةً لكِ، فلا يتوعَّر عليها مكان سلكته، وهذا قول مجاهد، واختيار الزجاج.

والثاني: أنها النحل، فالمعنى: إِنك مُذَلَّلَةً بالتسخير لبني آدم، وهذا وقول قتادة، واختيار ابن قتيبة.

قوله تعالى: { يخرج من بطونها شراب } يعني: العسل { مختلف ألوانه } قال ابن عباس: منه أحمر، وأبيض، وأصفر. قال الزجاج: «يخرج» من بطونها، إِلاَّ أنها تلقيه من أفواهها، وإِنما قال. من بطونها، لأن استحالة الأطعمة لا تكون إِلاَّ في البطن، فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم. قوله تعالى: { فيه شفاءٌ للناس } في هاء الكناية ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها ترجع إِلى العسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود. واختلفوا، هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره، أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أنه عامّ في كل مرض. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء. وقال قتادة: فيه شفاء للناس من الأدواء. وقد روى أبو سعيد الخدري قال: " جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِن أخي استطلق بطنُه، فقال: «اسقه عسلاً» فسقاه، ثم أتى فقال: قد سقيتُه فلم يزده إِلاَّ استطلاقاً، قال: «اسقه، عسلاً»، فذكر الحديث.. إِلى أن قال: فَشُفِيَ، إِما في الثالثة، وإِما في الرابعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق الله، وكذب بطن أخيك» " أخرجه البخاري، ومسلم. ويعني: بقوله «صدق الله»: هذه الآية. والثاني: فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، قاله السدي. والصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب. قال ابن الأنباري: الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء، ويدخل في الأدوية، فإذا لم يوافق آحادَ المرضى، فقد وافق الأكثرين، وهذا كقول العرب: الماء حياة كل شيء، وقد نرى من يقتله الماء، وإِنما الكلام على الأغلب.

والثاني: أن الهاء ترجع إِلى الاعتبار. والشفاء: بمعنى الهدى، قاله الضحاك.

والثالث: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله مجاهد.