الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } * { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } * { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }

قوله تعالى: { وإِن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } في سبب نزولها قولان:

أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف على حمزة، فرآه صريعاً، فلم ير شيئاً كان أوجع لقلبه منه، فقال: «والله لأمثلن بسبعين منهم»، فنزل جبريل، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف، بقوله: { وإِن عاقبتم... } إِلى آخرها، فصبر رسول الله وكفَّر عن يمينه، قاله أبو هريرة. وقال ابن عباس: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة قد شُق بطنه، وجُدِعت أذناه، فقال: «لولا أن تحزن النساء؛ أو تكون سنَّة بعدي لتركته حتَّى يبعثه الله من بطون السباع والطير، ولأقتلنَّ مكانه سبعين رجلا منهم»، فنزل قوله: { ادع إِلى سبيل ربك } إِلى قوله: { وما صبرك إِلا بالله }. وروى الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يومئذٍ: «لَئِن ظفرتُ بقاتل حمزة لأمثلنَّ به مثلة تتحدث بها العرب»، وكانت هند وآخرون معها قد مثّلوا به، فنزلت هذه الآية.

والثاني: أنه أصيب من الأنصار يوم أُحدٍ أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، ومثَّلوا بقتلاهم، فقالت الأنصار: لَئِن أصبنا منهم يوماً من الدهر، لنزيدنَّ على عِدَّتهم مرتين، فنزلت هذه الآية، قاله أُبيُّ بن كعب. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن المسلمين قالوا: لَئِن أمكننا الله منهم، لنمثِّلنَّ بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت هذه الآية. يقول: إِن كنتم فاعلين، فمثِّلوا بالأموات، كما مثَّلوا بأمواتكم. قال ابن الأنباري: وإِنما سمى فعل المشركين معاقبةً وهم ابتدؤوا بالمثلة، ليزدوج اللفظان، فيخف على اللسان، كقوله:وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها } [الشورى:40].

فصل

واختلف العلماء، هل هذه [الآية] منسوخة، أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أنها نزلت قبل { براءة } فأُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل من قاتله، ولا يبدأ بالقتال، ثم نُسخ ذلك، وأُمر بالجهاد، قاله ابن عباس، والضحاك، فعلى هذا يكون المعنى: { ولئن صبرتم } عن القتال، ثم نسخ هذا بقوله:فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة:5].

والثاني: أنها محكمة، وإِنما نزلت فيمن ظُلِم ظُلامة، فلا يحلُّ له أن ينال من ظالمه أكثر مما ناله الظالم منه، قاله مجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن سيرين، والثوري، وعلى هذا يكون المعنى: ولئن صبرتم عن المثلة، لا عن القتال.

قوله تعالى: { واصبر وما صبرك إِلاَّ بالله } أي: بتوفيقه ومعونته. وهذا أمر بالعزيمة.

وفي قوله: { ولا تحزن عليهم } قولان:

أحدهما على كفار مكة إِن لم يُسلموا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: ولا تحزن على قتلى أُحُد، فانهم أفضَوا إِلى رحمة الله، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.

قوله تعالى: { ولا تك في ضَيق } قرأ الأكثرون بنصب الضاد، وقرأ ابن كثير: «في ضِيق» بكسر الضاد هاهنا وفي [النمل:70]. قال الفراء: الضَيق بفتح الضاد: ما ضاق عنه صدرك، والضيّق: ما يكون في الذي يضيق ويتسع، مثل الدار والثوب وأشباه ذلك. وقال ابن قتيبة: الضَّيْق: تخفيف ضَيِّق، مثل: هَيْن ولَيْن، وهو، إِذا كان على هذا التأويل: صفة، كأنه قال: لا تك في أمر ضَيِّقٍ من مكرهم. قال: ويقال: مكان ضَيْق وضِيق، بمعنى واحد، كما يقال: رَطْلٌ ورِطْلٌ، وهذا أعجب إِليَّ. فأما مكرهم المذكور هاهنا، فقال أبوصالح عن ابن عباس: فعلهم وعملهم.

قوله تعالى: { إِن الله مع الذين اتَّقَوا } ما نهاهم عنه، وأحسنوا فيما أمرهم به، بالعون والنصر.