الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } * { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } * { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } * { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }

قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإِنسان } يعني آدم { من صلصال } وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه الطين اليابس الذي لم تُصِبه النار، فإذا نقرتَهَ صَلَّ، فسمعتَ له صلصلة، قاله ابن عباس، وقتادة، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.

والثاني: أنه الطين المنتن، قاله مجاهد، والكسائي، وأبو عبيد. ويقال: صَلَّ اللحمُ: إِذا تغيرت رائحته.

والثالث: أنه طين خُلط برمل، فصار له صوت عند نقره، قاله الفراء. فأما الحمأُ، فقال أبو عبيدة: هو جمع حَمْأة، وهو الطين المتغير. وقال ابن الأنباري: لا خلاف أن الحمأ: الطين الأسود المتغيِّر الريح. وروى السدي عن أشياخه قال: بُلَّ الترابُ حتى صار طيناً، ثم تُرك حتى أنتن وتغيَّر.

وفي المسنون أربعة أقوال.

أحدها: المنتن أيضاً، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: المسنون: المتغير الرائحة.

والثاني: أنه الطين الرطب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: أنه المصبوب، قاله أبو عمرو بن العلاء، وأبو عبيد.

والرابع: أنه المحكوك، ذكره ابن الأنباري، قال: فمن قال: المسنون: المنتن، قال: هو من قولهم: قد تسنَّى الشيء: إِذا أنتن، ومنه قوله تعالى:لم يتسنَّهْ } [البقرة 259]، وإِنما قيل له: مسنون، لتقادم السنين عليه. ومن قال: الطين الرطب، قال: سمي مسنوناً، لأنه يسيل وينبسط، فيكون كالماء المسنون المصبوب. ومن قال: المصبوب، احتج بقول العرب: قد سننت عليَّ الماء: إِذا صببته. ويجوز أن يكون المصبوب على صورة ومثال، من قوله: رأيت سُنَّة وجهه، أي: صورة وجهه، قال الشاعر:
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ   مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ
ومن قال: المحكوك، احتج بقول العرب: سننت الحجر على الحجر: إِذا حككته عليه. وسمي المِسَنُّ مسناً، لأن الحديد يُحَكُّ عليه. قال: وإِنما كُرِّرت «مِنْ» لأن الأولى متعلقة بـ «خلقنا»، والثانية متعلقة بالصلصال، تقديره: ولقد خلقنا الإِنسان من الصلصال الذي هو من حمأٍ مسنون.

قوله تعالى: { والجانَّ } فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه مسيخ الجن، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإِنس، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثاني: أنه أبو الجن، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وروى عنه الضحاك أنه قال: الجانُّ أبو الجن، وليسوا بشياطين، والشياطين ولد إِبليس لا يموتون إِلا مع إِبليس، والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر.

والثالث: أنه إِبليس، قاله الحسن، وعطاء، وقتادة، ومقاتل.

فإن قيل: أليس أبو الجن هو إِبليس؟ فعنه جوابان.

أحدهما: أنه هو، فيكون هذا القول هو الذي قبله.

والثاني: أن الجانَّ أبو الجن، وإِبليس أبو الشياطين، فبينهما إِذاً فرق على ما ذكرناه عن ابن عباس. قال العلماء: وإِنما سمي جانّاً، لتواريه عن العيون.

قوله تعالى: { من قبل } يعني: قبل خَلْق آدم { من نار السموم } ، وقال ابن مسعود: من نار الريح الحارَّة، وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. والسَّموم في اللغة: الريح الحارَّة وفيها نار، قال ابن السائب: وهي نار لا دخان لها.