الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } * { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }

قوله تعالى: { واستفتحوا } يعني: استنصروا. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وحميد، وابن مُحَيصن: «واستفتِحوا» بكسر التاء على الأمر. وفي المشار إِليهم قولان:

أحدهما: أنهم الرسل، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.

والثاني: أنهم الكفار، واستفتاحهم: سؤالهم العذاب، كقولهم:ربَّنا عجِّل لنا قِطَّنا } [ص: 16] وقولهم:إِن كان هذا هو الحقَّ من عندك... } الآية [الأنفال:32]، هذا قول ابن زيد.

قوله تعالى: { وخاب كل جبَّار عنيد } قال ابن السائب: خسر عند الدعاء، وقال مقاتل: خسر عند نزول العذاب، وقال أبو سليمان الدمشقي: يئس من الإِجابة. وقد شرحنا معنى الجبَّار والعنيد في [هود: 59].

قوله تعالى: { من ورائه جهنم } فيه قولان:

أحدهما: أنه بمعنى القُدَّام، قال ابن عباس، يريد: أمامه جهنم. وقال أبو عبيدة: «من ورائه» أي: قُدّامه وأمامه، يقال: الموت من ورائك، وأنشد:
أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَان سَمْعي وَطَاعَتِي   وَقَوْمي تَمِيمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا
والثاني: أنها بمعنى: «بَعْد»، قال ابن الأنباري: «من ورائه» أي: من بعد يأسه، فدلَّ «خاب» على اليأس، فكنى عنه، وحملت «وراء» على معنى: «بَعْد» كما قال النابغة:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً   وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ للمرءِ مَذْهَبُ
أراد: ليس بَعْد الله مَذهب. قال الزجاج: والوراء يكون بمعنى الخَلْف والقُدَّام، لأن ما بين يديك وما قُدَّامك إِذا توارى عنك فقد صار وراءك، قال الشاعر:
أَلَيْسَ وَرَائَي إِن تَرَاخَتْ مَنِيتَّي   لُزُومُ العَصَا تُحنَى عليها الأَصَابِع
قال: وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة. وسئل ثعلب: لم قيل: الوراء للأمام؟ فقال: الوراء: اسم لما توارى عن عينك، سواء أكان أمامك أو خلفك. وقال الفراء: إِنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر، تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد. ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك: هو وراءك، ولا للرجُل: وراءك: هو بين يديك.

قوله تعالى: { ويُسقى من ماءٍ صديد } قال عكرمة، ومجاهد، واللغويون: الصديد: القيح والدَّم، قاله قتادة، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.

وقال القرظي: هو غُسالة أهل النار، وذلك مايسيل من فروج الزناة. وقال ابن قتيبة: المعنى: يُسقى الصديدَ مكانَ الماء، قال: ويجوز أن يكون على التشبيه، أي: ما يُسقَى ماءٌ كأنه صديد.

قوله تعالى: { يتجرَّعه } والتجرع: تناول المشروب جُرعة جُرعة، لا في مرة واحدة، وذلك لشدة كراهته له، وإنما يُكرهه على شربه.

قوله تعالى: { ولا يكاد يُسيغه } قال الزجاج: لا يقدر على ابتلاعه، تقول: ساغ لي الشيء، وأسغته. وروى أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يُقرَّب إِليه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطَّع أمعاءه حتى يخرج من دبره ".

السابقالتالي
2