الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

قوله تعالى: { لا جرم } قال ابن عباس: يريد: حقاً إِنهم الأخسرون. وقال الفراء:«لا جرم» كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك، وكثر استعمالهم إِياها حتى صارت بمنزلة «حقا»، ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينَّك، لا جرم لقد أحسنت، وأصلها من جرمتُ، أي: كسبت الذنب. قال الزجاج: ومعنى «لا جرم»: «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي: كسب لهم ذلك الفعلُ الخسرانَ. وذكر ابن الأنباري أن «لا» رد على أهل الكفر فيما قدَّروه من اندفاع الشر عنهم في الآخرة، والمعنى: لا يندفع عنهم عذابي، ولا يجدون ولياً يصرف عنهم نقمتي، ثم ابتدأ مستأنفاً «جرم»، قال: وفيها قولان:

أحدهما: أنها بمعنى: كسب كفرهم وما قدَّروا من الباطل وقوعَ العذاب بهم. فـ «جرم» فعل ماض، معناه: كسب، وفاعله مُضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل.

والثاني: أن معنى جرم: أحقَّ وصحَّحَ، وهو فعل ماض، وفاعله مضمر فيه، والمعنى: أحقَّ كفرُهم وقوعَ العذاب والخسران بهم، قال الشاعر:
ولقد طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طعنةً   جرمت فزارة بعدها أن يَغْضَبُوا
أراد: حقت الطعنةُ فزارة بالغضب. ومن العرب من يغيِّرُ لفظ «جرم» مع «لا» خاصة، فيقول بعضهم: «لا جُرْم»، ويقول آخرون:«لا جَرْ» باسقاط الميم، ويقال: «لاذا جرم» و «لاذا جر» بغير ميم، و لا إِن ذا جرم } و «لا عن ذا جرم»، ومعنى اللغات كلها: حقاً.

قوله تعالى: { وأخبتوا إِلى ربهم } فيه سبعة أقوال:

أحدها: خافوا ربهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثاني: أنابوا إلى ربهم، رواه العوفي عن ابن عباس.

والثالث: ثابوا إِلى ربهم، قاله قتادة.

والرابع: اطمأنوا، قاله مجاهد.

والخامس: أخلصوا، قاله مقاتل.

والسادس: تخشَّعوا لربهم، قاله الفراء.

والسابع: تواضعوا لربهم، قاله ابن قتيبة.

فإن قيل: لم أوثرت «إِلى» على اللام في قوله «وأخبتوا إِلى ربهم»، والعادة جارية بأن يقال: أخبتوا لربهم؟

فالجواب: أن المعنى: وَجَّهوا خوفَهم وخشوعهم وإِخلاصهم إِلى ربهم، واطمأنوا إِلى ربهم. قال الفراء: وربما جعلت العرب «إِلى» في موضع اللام، كقوله:بأن ربك أوحى لها } [الزلزال: 5]، وقوله:الذي هدانا لهذا } [الأعراف:43]. وقد يجوز في العربية: فلان يخبت إِلى الله، يريد: يفعل ذلك موجهَه إِلى الله. قال بعض المفسرين: هذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قبلها نازل في المشركين. ثم ضرب للفريقين مثلاً، فقال: { مثل الفريقين كالأعمى والأصم } قال مجاهد: الفريقان: المؤمن والكافر. فأما الأعمى والأصم فهو الكافر، وأما البصير والسميع فهو المؤمن. قال قتادة: الكافر عَمِيَ عن الحق وصُمَّ عنه، والمؤمن أبصرَ الحق وسمعَه ثم انتفع به.

السابقالتالي
2