الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ }

{ نتقنا } معناه اقتلعنا ورفعنا فكأن النتق اقتلاع الشيء، تقول العرب: نتقت الزبدة من فم القربة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]

ونتقوا أحلامنا الأثاقلا   
والناتق الرحم التي تقلع الولد من الرجل، ومنه قول النابغة:

لم يحرموا حسن الغداء وأمهم   دحقت عليك بناتق مذكار
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بتزويج الأبكار فإنهن أنتق أرحاماً وأطيب أفواهاً " الحديث. وقد جاء في القرآن بدل هذه اللفظة في هذه القصة بعينها رفعنا لكن { نتقنا } ، و { فوقَهم } أعطت الرفع بزيادة قرينة هي أن الجبل اقتلعته الملائكة وأمر الله إياه، وروي أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة فقال عن الله تعالى هذا كتاب الله أتقبلونه بما فيه؟ فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم، قالوا: انشر علينا ما فيها فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة قبلناها، قال: قبلوها بما فيها قالوا: لا، فراجعهم موسى فراجعوا ثلاثاً فأوحى الله عز وجل إلى الجبل فانقلع وارتفع فوق رؤوسهم، فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم ألا ترون ما يقول ربي؟: لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل, قال الحسن البصري: فلما رأوا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجداً على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً أن يسقط عليه فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر يقولون هذه السجدة التي رفعت بها عنا العقوبة، و " الظلة " ما أظل ومنهمن ظلل من الغمام } [البقرة:210] ومنهعذاب يوم الظلة } [الشعراء:189] ومنه قول أسيد بن حضير للنبي صلى الله عليه وسلم: قرأت البارحة " فغشي الدار مثل الظلة فيها أمثال المصابيح " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تلك السكينة تنزلت للقرآن " فإن قيل فإذا كان الجبل ظلة فما معنى: كأنه؟ فالجواب أن البشر إنما اعتادوا هذه الأجرام الأرضية ظللاً إذا كانت على عمد، فلما كان الجبل على غير عمد قيل { كأنه ظلة } أي كأنه على عمد، { وظنوا } قال المفسرون: معناه أيقنوا.

قال القاضي أبو محمد: وليس الأمر عندي كذلك بل هو موضع غلبة الظن مع بقاء الرجاء، وكيف يوقنون بوقوعه وموسى عليه السلام يقول: إن الرمي به إنما هو بشرط أن لا يقبلوا التوراة والظن إنما يقع ويستعمل في اليقين متى كان ذلك المتيقن لم يخرج إلى الحواس, وقد يبين هذا فيما سلف من هذا الكتاب ثم قبل لهم في وقت ارتفاع الجبل: { خذوا ما آتيناكم بقوة } فأخذوها والتزموا جميع ما تضمنته من شدة ورخاء فما وفوا، وقرأ جمهور الناس: { واذكروا } وقرأ الأعمش فيما حكى أبو الفتح عنه: " واذكروا ولعلكم " على ترجيهم وهذا تشدد في حفظها والتهمم بأمرها.

السابقالتالي
2 3