الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { وَقَالُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ ٱلأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } * { وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }

لما أخبر عنهم عز وجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضاً، والمعنى { لو نزلنا } بمرأى منهم عليك { كتاباً } أي كلاماً مكتوباً { في قرطاس } أي في صحيفة، ويقال " قُرطاس " بضم القاف { فلمسوه بايديهم } يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين، ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية، يأمرني بتصديقك، وما أراني مع هذا كنت أصدقك، ثم أسلم بعد ذلك عبد الله وقتل شهيداً في الطائف، وقوله تعالى: { وقالوا لولا أنزل عليك ملك } الآية حكاه عمن تشطط من العرب بأن طلب أن ينزل ملك يصدق محمداً في نبوءته ويعلم عن الله عز وجل أنه حق، فرد الله تعالى عليهم بقوله: { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } وقال مجاهد: معناه لقامت القيامة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا ضعيف، وقال قتادة والسدي وابن عباس رضي الله عنه: في الكلام حذف تقديره ولو " أنزلنا ملكاً فكذبوا به لقضي الأمر " بعذابهم ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية وكذبت بعد أن ظهرت إليها، وهذا قول حسن، وقالت فرقة { لقضي الأمر } أي لماتوا من هول رؤية الملك في صورته، ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله: { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، فالأولى في قول { لقضي الأمر } أي لماتوا من هول رؤيته، { ينظرون } معناه يؤخرون، والنظرة التأخير، وقوله عز وجل: { ولو جعلناه } الآية المعنى أنَّا لو جعلناه ملكاً لجعلناه ولا بد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.

قال القاضي أبو محمد: ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي عليه السلام للمشركين، فسمعا حس الملائكة وقائلاً يقول في السماء، أقدم حيزوم فمات أحدهما لهول ذلك، فكيف برؤية ملك في خلقته، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه السلام لجبريل وغيره في صورهم، لأن النبي عليه السلام أعطي قوة غير هذه كلها صلى الله عليه وسلم، { وللبسنا } أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وعلى ضعفتهم، أي لفعلنا لهم في ذلك فعلاً ملبساً يطرق لهم إلى أن يلبسوا به، وذلك لا يحسن، ويحتمل الكلام مقصداً آخر، أي " للبسنا " نحن عليهم كما " يلبسون " هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله بهم، ويقال: لبس الرجل الأمر يلبسه لبساً إذا خلطه، وقرأ ابن محيصن " ولَبّسنا " بفتح اللام وشد الباء، وذكر بعض الناس في هذه الآية: أنها نزلت في أهل الكتاب، وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب.