الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }

هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا، وقوله: { بلقاء الله } معناه: بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها، و { الساعة } يوم القيامة، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها، وأيضاً فقد تضمنها قوله تعالى: { بلقاء الله } وبغتة معناه فجأة، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر:

ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة   وأفظع شيء حين يفجأك البغت
ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول: قتلته صبراً، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه، ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل، ونحو هذا، و { فرطنا } معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير، وهذه حقيقة التفريط، والضمير في قوله { فيها } عائد على { الساعة } أي في التقدمة لها، وهذا قول الحسن، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية. ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار، وعوده على { الساعة } إنما معناه في أمورها والاستعداد لها، بمنزلة زيد في العلم مشتغل.

وقوله تعالى:

{ وهم يحملون أوزارهم } الآية، الواو واو الحال، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب، تقول منه وزر يزر إذا حمل، قال الله تعالى:ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام:164] وتقول وزر الرجل فهو موزور، قال أبو عبيد والعامة مازور، وأما إذا اقترن ذلك بما جوز فإن العرب تقول مأزور، وقد " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء لقيهن مقبلات من المقابر: " ارجعن مأزورات غير مأجورات " قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبراً أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول له طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم، قال فيحمله تمثال العمل، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره، وقوله تعالى: { ألا ساء ما يزرون } إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب، وقوله ألا هل بلغت، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه { ألا } ، وأما { ساء ما يزرون } فهو خبر مجرد كقول الشاعر: [البسيط]

السابقالتالي
2