الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف تقديره: { قل لمن ما في السماوات والأرض }؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا، قل لله، وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له: قل لله، والصحيح أن الله عز وجل أمر محمداً عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، جاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: { لمن ما في السماوات والأرض } والوجه في الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العادلون بربهم { لمن ما في السماوات والأرض }؟ ثم سبقهم فقال: { لله } ، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى: { كتب على نفسه الرحمة } معناه قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتضمن كتب الرحمة، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا، منها أن الله تعالى خلق مائة رحمة فوضع منها واحدة في الأرض فيها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها. وبها تتعاطف الطير والحيتان، وعنده تسع وتسعون رحمة، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده.

قال القاضي أبو محمد: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا الله بفضل منه، ومنها حديث آخر أن الله عز وجل كتب عنده كتاباً فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي، ويروى: نالت غضبي، ومعناه سبقت، وأنشد عليه ثابت بن قاسم:

أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا   نالا الملوك وفكَّكا الأغلالا
ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا، وأن باب توبتهم مفتوح، قال الزجاج: { الرحمة } هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، وحكى المهدوي: أن جماعة من النحويين قالت: إن { ليجمعنكم } هو تفسير { الرحمة } تقديره: أن يجمعكم فيكون { ليجمعنكم } في موضع نصب على البدل من { الرحمة } ، وهو مثل قوله:ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } [يوسف:35] المعنى: أن يسجنوه.

قال القاضي أبو محمد: يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب، وهو مردود، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم، وقالت فرقة وهو الأظهر: إن اللام لام قسم والكلام مستأنف، ويتخرج ذلك في { ليسجننه } وقالت فرقة { إلى } بمعنى في وقيل على بابها غاية وهو الأرجح، و { لا ريب فيه } لا شك فيه، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه، وقوله تعالى: { الذين خسروا أنفسهم } الآية قيل إن { الذين } منادى.

السابقالتالي
2