الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } * { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } * { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ }

{ كم } للتكثير وهي خبرية، المعنى كثيراً { أهلكنا قبلهم }. والقرن: الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن. واختلف الناس في ذلك القدر، فقال الجمهور: مائة سنة، وقيل غير هذا، وقد تقدم القول فيه غير مرة. وشدة البطش: هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك.

وقرأ جمهور من الناس: " فنقَّبوا " بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية، والمعنى: ولجوا البلاد من أنقابها وفي الحديث: " أن على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ". والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر [امرؤ القيس]: [الوافر]

وقد نقبت في الآفاق حتى   رضيت من الغنيمة بالإياب
ومنه قول الحارث بن حلزة: [الخفيف]

نقبوا في البلاد من حذر الموت   وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية: " فنقِّبوا " بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين.

و: { هل من محيص } توقيف وتقرير، أي لا محيص، والمحيص: المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد، قال قتادة: حاص الكفرة فوجدوا أمر الله منيعاً مدركاً، وفي صدر البخاري فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب. وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته: [الوافر]

إذا حاص الدليل رأيت منها   جنوحاً للطريق على اتساق
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه: " فنقَبوا " بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد، واللفظة أيضاً قد تقال بمعنى البحث والطلب، تقول: نقب عن كذا اي استقصى عنه، ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب.

وقوله تعالى: { إن في ذلك } يعني إهلاك من مضى، والذكرى: التذكرة، والقلب: عبارة عن العقل إذ هو محله. والمعنى: { لمن كان له قلب } واع ينتفع به. وقال الشبلي معناه: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين.

وقوله تعالى: { أو ألقى السمع وهو شهيد } معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبته في سماعها، فذلك إلقاء له عليها، ومنه قوله تعالى:وألقيت عليك محبة مني } [طه: 39] أي أثبتها عليك، وقال بعض الناس قوله تعالى: { ألقى السمع } ، وقوله:ضربنا على آذانهم } [الكهف: 11] وقوله:سقط في أيديهم } [الأعراف: 149] هي كلها مما قل استعمالها الآن وبعدت معانيها.

قال القاضي أبو محمد: وقول هذا القائل ضعيف، بل هي بينة المعاني، وقد تقدمت في موضعها.

وقوله تعالى: { وهو شهيد } قال بعض المتأولين: معناه: وهو مشاهد مقبل على الأمر غير معرض ولا منكر في غير ما يسمع. وقال قتادة: هي إشارة إلى أهل الكتاب، فكأنه قال: إن هذه العبرة التذكرة لمن له فهم فيتدبر الأمر أو لمن سمعها من أهل الكتاب فيشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني إسرائيل: فـ { شهيد } على التأويل الأول من المشاهدة، وعلى التأويل الثاني من الشهادة.

السابقالتالي
2 3