الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }

هذه الآيات والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية. وذلك لأنهم كانوا يجرون مع الشهوات نفوسهم لم يقومهم أمر من الله ولا نهي. فكان الرجل يسطو ويهمز ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون. فيتكلم بها. ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطالة. فنزلت هذه الآية تأديباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسباباً. فمما قيل: إن هذه الآية: { لا يسخر قوم } نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه كان يمشي بالمدينة مسلماً، فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال القاضي أبو محمد: والقوي عندي أن هذه الآية نزلت تقويماً كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى.

و: { يسخر } معناه: يستهزئ. والهزء إنما يترتب متى ضعف امرؤ إما لصغر وإما لعلة حادثة، أو لرزية أو لنقيصة يأتيها، فنهي المؤمنون عن الاستهزاء في هذه الأمور وغيرها نهياً عاماً، فقد يكون ذلك المستهزأ به خيراً من الساخر، والقوم في كلام العرب: واقع على الذكران، وهو من أسماء الجمع: كالرهط والنفر. وقول من قال: إنه من القيام أو جمع قائم ضعيف، ومنه قول الشاعر وهو زهير: [الوافر]

وما أدري وسوف إخال أدري   أقوم آل حصن أم نساء
وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع الذكران نساء فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور، ثم نهى تعالى النساء عمّا نهى عنه الرجال من ذلك.

وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود: " عسوا أن يكونوا " ، " وعسين أن يكن ".

و: { تلمزوا } ، معناه: يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه، وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز لا يكون إلا باللسان، وهو مشبه بالهمز بالعود ونحوه مما يقتضي المماسة، قال الشاعر [رؤبة]:

ومن همزنا عزه تبركعا   
وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ فقال الهر يهمزها. وحكى الثعلبي أن اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان في المغيب. وحكى الزهراوي عن علي بن سليمان عَكَّهُ من ذلك فقال: الهمز أن يعيب حضرة واللمز في الغيبة. ومنه قوله تعالى:ويل لكل همزة لمزة } [الهمزة: 1] ومنه قوله تعالى:ومنهم من يلمزك في الصدقات } [التوبة: 58].

وقرأ الجمهور: " تلمِزوا " بكسر الميم. وقرأ الأعرج والحسن: " تلمُزوا " بضم الميم. قال أبو عمرو بن العلاء: هي عربية. قراءتنا بالضم وأحياناً بالكسر.

وقوله تعالى: { أنفسكم } معناه: بعضكم بعضاً كما قال:ولا تقتلوا أنفسكم } [النساء: 29] كأن المؤمنين كنفس واحدة إذ هم إخوة. فهم كما قال صلى الله عليه وسلم:

السابقالتالي
2 3 4