الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } * { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ } * { هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } * { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }

المعنى: { ثم جعلناك على شريعة } ، فلا محالة أنه سيختلف عليك كما تقدم لبني إسرائيل فاتبع شريعتك، والشريعة في كلام العرب: الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ومنه قول الشاعر: [البسيط].

وفي الشرائع من جلان مقتنص   رث الثياب خفيّ الشخص منسرب
فشريعة الدين هي من ذلك، كأنها من حيث يرد الناس أمر الحدود ورحمته والقرب منه. وقال قتادة: الشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي.

وقوله: { من الأمر } يحتمل أن يكون واحد الأمور أي من دون الله ونبواته التي بثها في سالف الزمان، ويحتمل أن يكون مصدراً من أمر يأمر، أي على شريعة من الأوامر والنواهي، فسمى جميع ذلك أمراً. و { الذين لا يعلمون } هم الكفار الذين كانوا يريدون صرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى إرادتهم. و: { يغنوا } من الغناء، أي لن يكون لهم عنك دفاع. ثم حقر تعالى شأن الظالمين مشيراً بذلك إلى كفار قريش، ووجه التحقير أنه قال: هؤلاء يتولى بعضهم بعضاً، والمتقون يتولاهم الله، فخرجوا عن ولاية الله وتبرأت منهم، ووكلهم الله بعضهم إلى بعض.

وقوله تعالى: { هذا بصائر } يريد القرآن. والبصائر جمع بصيرة، وهي المعتقد الوثيق في الشيء، كأنه مصدر من إبصار القلب، فالقرآن فيه بيانات ينبغي أن تكون بصائر. والبصيرة في كلام العرب: الطريقة من الدم، ومنه قول الشاعر يصف جده في طلق الثأر وتواني غيره: [الكامل]

راحوا بصائرهم على أكتافهم   وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
وفسر الناس هذا البيت بطريقة الدم إذ كانت عادة طالب الدم عندهم أن يجعل طريقة من دم خلف ظهره ليعلم بذلك أنه لم يدرك ثأره وأنه يطلبه، ويظهر فيه أنه يريد بصيرة القلب، أي قد اطرح هؤلاء بصائرهم وراء ظهورهم.

وقوله تعالى: { أم حسب } الآية قول يقتضي أنه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا. و: { أم } هذه ليست بمعادلة، وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام. و: { اجترحوا } معناه: اكتسبوا، ومنه جوارح الإنسان، ومنه الجوارح في الصيد، وتقول العرب: فلان جارحة أهله، أي كاسبهم.

وقرأ أكثر القراء: " سواءٌ " بالرفع " محياهم ومماتُهم " بالرفع، وهذا على أن " سواءٌ " رفع بالابتداء " ومحياهم ومماتُهم " خبره. و: { كالذين } في موضع المفعول الثاني لـ " نجعل " ، وهذا على أحد معنيين: إما أن يكون الضمير في { محياهم } يختص بالكفار المجترحين، فتكون الجملة خبراً عن أن حالهم في الزمنين حال سوء. والمعنى الثاني: أن يكون الضمير في { محياهم } يعم الفريقين، والمعنى: أن محيا هؤلاء ومماتهم سواء، وهو كريم، ومحيا الكفار ومماتهم سواء، وهو غير كريم، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفرقه، إذ تقدم أبعاد أن يجعل الله هؤلاء كهؤلاء.

السابقالتالي
2