الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

هذه آية عبرة في جريان السفينة في البحر، وذلك أن الله تعالى سخر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق الحقير الضعيف.

وقوله: { بأمره } أقام القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك. والابتغاء من فضل الله: هو بالتجارة في الأغلب، وكذلك مقاصد البر من حج أو جهاد هي أيضاً ابتغاء فضل، والتصير فيه هو ابتغاء فضل. وتسخير { ما في السماوات }: هو تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة بهذا كله، ويروى أن بعض الأحبار نزل به ضيف فقدم إليه رغيفاً، فكأن الضيف احتقره فقال له المضيف: لا تحتقره فإنه لم يستدر حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم الموصلين إلى استدارة الرغيف، وتسخير ما في الأرض هو تسخير البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك. ومعنى قوله: { جميعاً منه } قال ابن عباس: كل إنعام فهو من الله تعالى.

وقرأ جمهور الناس: " منه " وهو وقف جيد. وقرأ مسلمة بن محارب: " مَنُّه " بفتح الميم وشد النون المضمومة بتقدير: هو منه. وقرأ ابن عباس: بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على المصدر. قال أبو حاتم: سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير. وقرأ مسلمة بن محارب أيضاً: " مِنةٌ " بكسر الميم وبالرفع في التاء.

وقوله تعالى: { قل للذين آمنوا يغفروا } الآية، آية نزلت في صدر الإسلام، أمر الله المؤمنين فيها أن يتجاوزوا عن الكفار وأن لا يعاقبوهم بذنب، بل يأخذون أنفسهم بالصبر، قاله محمد بن كعب القرظي والسدي. قال أكثر الناس: وهذه آية منسوخة بآية القتال وقالت فرقة: الآية محكمة، والآية تتضمن الغفران عموماً، فينبغي أن يقال: إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخ غفرانه آية السيف والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة، وإن الأمور المحقرة كالجفاء في القول ونحو ذلك يحتمل أن يتقى محكمه، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى. وقال ابن عباس لما نزلت:من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [البقرة: 245] قال فنحاص اليهودي. احتاج رب محمد، فأخذ عمر سيفه ومر ليقتله، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إن ربك يقول: { قل للذين آمنوا } " الآية، فهذا احتجاج بها مع قدم نزولها. وقد ذكر مكي وغيره أنها نزلت بمكة في عمر رضي الله عنه لما أراد أن يبطش بمشرك شتمه. وأما الجزم في قوله: { يغفروا } فهو جواب شرط مقدر تقديره: قل اغفروا فإن يجيبوا يغفروا.

السابقالتالي
2