الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } * { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }

المعنى: { شرع لكم } وبين من المعتقدات والتوحيد { ما وصى به نوحاً } قبل.

وقوله: { والذي } عطف على { ما } ، وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه، وذلك في المعتقدات أو في جملة أمرها من أن كل نبوة فإنما مضمنها معتقدات وأحكام، فيجيء المعنى على هذا: شرع لكم شرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوءة وذات أحكام كما كانت تلك كلها، وعلى هذا يتخرج ما حكاه الطبري عن قتادة قال: { ما وصى به نوحاً } يريد الحلال والحرام، وعليه روي أن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات. وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة، وهي المراد في قوله تعالى:لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [المائدة: 48].

و { أن } في قوله: { أن أقيموا } يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من { ما } ، ويجوز في موضع خفض بدلاً من الضمير في { به } ، وفي موضع رفع على خبر ابتداء تقديره: ذلك أن، و { أن } تكون مفسرة بمعنى: أي، لا موضع لها من الإعراب، وإقامة الدين هو توحيد الله تعالى ورفض سواه.

وقوله: { ولا تفرقوا } نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب، والخير كله في الإلفة واجتماع الكلمة. ثم أخبر تعالى نبيه بصعوبة موقع هذه الدعوة إلى إقامة الدين على المشركين بالله العابدين الأصنام. قال قتادة: كبّرت عليهم: لا إله إلا الله، وأبى الله إلا نصرها، ثم سلاه عنهم بقوله: { الله يجتبي } أي يختار ويصطفي، قاله مجاهد وغيره: و: { ينيب } معناه يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه.

وقوله: { ولا تتفرقوا } عبارة يجمع خطابها كفار العرب واليهود والنصارى وكل مدعو إلى الإسلام، فلذلك حسن أن يقال: ما تفرقوا، يعني بذلك أوائل اليهود والنصارى. والعلم الذي جاءهم: هو ما كان حصل في نفوسهم من علم كتب الله تعالى فبغى بعضهم على بعض، أداهم ذلك إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة والكلمة السابقة: قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاء بأن مجازاتهم إنما تقع في الآخرة، فلولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا وغلب المحق على المبطل.

وقوله تعالى: { وإن الذين أورثوا الكتاب } إشارة إلى معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وقيل هي إشارة إلى العرب. و { الكتاب }: هو القرآن. والضمير في قوله: { لفي شك } يحتمل أن يعود على { الكتاب } ، أو على محمد، أو على الأجل المسمى، أي في شك من البعث على قول من رأى الإشارة إلى العرب، ووصف الشك بـ { مريب } مبالغة فيه.