الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { ويوم } نصب بإضمار فعل تقديره: واذكر يوم.

وقرأ نافع وحده والأعرج وأهل المدينة: " نحشر " بالنون " أعداءَ " بالنصب، إلا أن الأعرج كسر الشين. وقرأ الباقون: " يُحشر " بالياء المرفوعة، " أعداءُ " رفعاً، وهي قراءة الأعمش والحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وقتادة وعيسى وطلحة ونافع فيما روي عنه، وحجتها { يوزعون } ، و: { أعداء الله } هم الكفار المخالفون لأمره.

و: { يوزعون } قال قتادة والسدي وأهل اللغة، معناه: يكف أولهم حبساً على آخرتهم، وفي حديث أبي قحافة يوم الفتح: ذلك الوازع. وقال الحسن البصري: لا بد للقاضي من وزعة. وقال أبو بكر: إني لا أقيد من وزعة الله تعالى. و: { حتى } غاية لهذا الحشر المذكور، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون ذلك ويحسبون أن لا شاهد عليهم، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار، فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم، فروي عن النبي عليه السلام " أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه الأيسر ثم تنطق الجوارح، " فيقول الكافر: تباً لك أيها الأعضاء، فعنك كنت أدافع. وفي حديث آخر: " يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فيتكلم الفخذ والكف. " ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم في قولهم: { لم شهدتم علينا } أي وعذابنا عذاب لكم.

واختلف الناس ما المراد بالجلود؟ فقال جمهور الناس: هي الجلود المعروفة. وقال عبد الله بن أبي جعفر: كنى بالجلود عن الفروج، وإياها أراد. وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم.

وقوله: { أنطق كل شيء } يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة.

قوله عز وجل: { وما كنتم تستترون } يحتمل أن يكون من كلام الجلود ومحاورتها، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل لهم، أو من كلام ملك يأمره تعالى. وأما المعنى فيحتمل وجهين أحدهما أن يريد: وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر خوف أن يشهد، أو لأجل أن يشهد، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم فانهملتم وجاهرتم، وهذا هو منحى مجاهد. والستر قد يتصرف على هذا المعنى ونحوه، ومنه قول الشاعر: [الكامل]

والستر دون الفاحشات وما   يلقاك دون الخير من ستر
والمعنى الثاني أن يريد: وما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد، وهذا هو منحى السدي، كأن المعنى: وما كنتم تدفعون بالاختفاء والستر أن يشهد، لأن الجوارح لزيمة لكم، وفي إلزامه إياهم الظن بأن الله تعالى لا يعلم، هو إلزامهم الكفر والجهل بالله، وهذا المعتقد يؤدي بصاحبه إلى تكذيب أمر الرسل واحتقار قدرة الإله، لا رب غيره.

السابقالتالي
2