الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } * { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ }

لما ذكر عز وجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملاً جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطراً وهو التوحيد، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل، فهو أبداً ناصب، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها، ومتى أرضى صنماً منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبداً تعب في ضلال، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله.

وقوله: { ضرب } مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه، ومنه قولهم: هذا ضرب هذا، أي شبهه. و: { مثلاً } مفعول بـ { ضرب } ، و: { رجلاً } نصب على البدل. قال الكسائي: وإن شئت على إسقاط الخافض. أي مثلاً لرجل أو في رجل، وفي هذا نظر، و: { متشاكسون } معناه: لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحاذقة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]

خلقت شكساً للأعادي مشكسا   أكوي السريين وأحسم النسا
من شاء من حر الجحيم استقبسا   
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " سالماً " ، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه. قال أبو عمرو معناه: خالصاً، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه. وقرأ الباقون: " سَلَماً " ، بفتح السين واللام، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف. وقرأ سعيد بن جبير: " سِلْماً " ، بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له.

ثم وقف الكفار بقوله: { هل يستويان مثلاً } ونصب { مثلاً } على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا، فقال: { الحمد لله } أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم. ثم قال تعالى: { بل أكثرهم لا يعلمون } فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره: الحمد لله على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون { بل أكثرهم لا يعلمون }. و " أكثر " في هذه الآية على بابها، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس. ثم ابتدأ القول معهم غرضاً آخر من الوعيد يوم القيامة والخصوم ومن التحذير من حال الكذبة على الله المكذبين بالصدق، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف التوعد، وهذا كما تريد أن تنهى إنساناً عن معاصيه أو تأمره بخير فتفتتح كلامك بأن تقول: كلنا يفنى ولا بد للجميع من الموت، أو كل من عليها فان، ونحو هذا مما توقن به نفس الذي تحاور، ثم بعد هذا تورد قولك، فأخبر تعالى أن الجميع " ميت ".

السابقالتالي
2