الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } * { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } * { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } * { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }

هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحت بالاستفهام تعجيباً من القصة وتفخيماً لها، لأن المعنى: هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة، فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي. و { الخصم } جار مجرى عدل وزور، يوصف به الواحد والاثنان والجميع، ومنه قول لبيد: [الطويل]

وخصم يعدو الذخول كأنهم   قروم غيارى كل أزهر مصعب
وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، فتجيء الضمائر في: { تسوروا } و: { دخلوا } و: { قالوا } على جهة التجوز، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع، ويحتمل أنه جاء مع كل فرقة، كالعاضدة والمؤنسة، فيقع على جميعهم خصم، وتجيء الضمائر حقيقة. و: { تسوروا } معناه: علوا سوره وهو جمع سورة، وهي القطعة من البناء، هذا كما تقول: تسنمت الحائط أو البعير، إذا علوت على سنامه. و { المحراب }: الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو مضوع التعبد، والعامل في: { إذ } الأولى { نبأ } وقيل: { أتاك }. والعامل في: { إذ } الثانية { تسوروا } ، وقيل هي بدل من { إذ } الأولى وقوله تعالى: { ففزع منهم } يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلاً، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم: { لا تخف } أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه.

وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما: جرباني يوماً، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروهاً. وقال السدي: كان داود قد قسم دهره: يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً لعبادته، ويوماً لشأن نفسه، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله. قال ابن عباس ما معناه: أنه أخذ داود يوماً في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة، فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائراً حسن الهيئة: حمامة، فمد داود يده ليأخذه فزال مطمعاً له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه، فتنحى له الطائر، فتطلع داود عليه السلام، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظراً جميلاً فتنه، ثم إنها شعرت به، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به، فزاده ولوعاً بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له: أوريا وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلاناً يقاتل عند التابوت، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك.

السابقالتالي
2 3 4 5