الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } * { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ } * { قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } * { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } * { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } * { سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } * { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قرأ جمهور الناس " أسلما " أي أنفسهما واستسلما لله تعالى، وقرأ علي وعبد الله وابن عباس ومجاهد والثوري " سلما " والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره وانحملا على أمره، فأسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه واختلف النحاة في جواب { لما } ، فقال الكوفيون الجواب { ناديناه } ، والواو زائدة، وقالت فرقة الجواب { وتله } والواو زائدة كزيادتها في قوله:وفتحت السماء } [النبأ: 19] وقال البصريون: الجواب محذوف تقديره " فلما أسلم وتله " ، وهذا قول الخليل وسيبويه، وهو عندهم كقول امرىء القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى   بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
التقدير فلما أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى، وقال بعض البصريين: الجواب محذوف وتقديره { فلما أسلما وتله للجبين } أجزل أجرهما أو نحو هذا مما يقتضيه المعنى، { وتله } وضعه بقوة ومنه الحديث في القدح، فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده أي وضعه بقوة، والتل من الأرض مأخوذ من هذه كأنه تل في ذلك الموضع، و { للجبين } معناه لتلك الجهة وعليها وكما يقولون في المثل لليدين والفم وكما تقول سقط لشقه الأيسر، وقال ساعدة بن جوبة " وظل تليلاً للجبين والجبينان ما اكتنف الجبهة من هنا وهنا " ، وروي في قصص هذه الآية أن الذبيح قال لأبيه اشدد رباطي بالحبل لئلا أضطراب واصرف بصرك عني، لئلا ترحمني ورد وجهي نحو الأرض، قال قتادة كبه لفيه وأخذ الشفرة، والتل للجبين ليس يقتضي أن الوجه نحو الأرض بل هي هيئة من ذبح للقبلة على جنبه، وقوله { أن يا إبراهيم } ، { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب وقوله، { قد صدقت } يحتمل أن يريد بقلبك على معنى كانت عندك رؤياك صادقة وحقاً من الله فعملت بحسبها حين آمنت بها واعتقدت صدقها، ويحتمل أن يريد صدقت بعملك ما حصل عن الرؤيا في نفسك كأنه قال قد وفيتها حقها من العمل، و { الرؤيا } اسم لما يرى من قبل الله تعالى، والمنام والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان، ومنه الحديث الصحيح " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان " ، وقوله { إنا كذلك } إشارة إلى ما عمل إبراهيم، كأنه يقول إنا بهذا النوع من الإخلاص والطاعة { نجزي المحسنين } ، وقوله تعالى { إن هذا لهو } يشير إلى ما في القصة من امتحان واختبار وسير معتقد، فيكون { البلاء } على هذا المعنى الاختبار بالشدة، ويحتمل أن يشير إلى ما في القصة من سرور بالفدية وإنقاذ من تلك الشدة في إنفاذ الذبح، فيكون { البلاء } بمعنى النعمة.

قال القاضي أبو محمد: وإلى كل احتمال قد أشارت فرقة من المفسرين، وفي الحديث أن الله تعالى أوحى إلى إسحاق أني قد أعطيتك فيها ما سألت فسلني فقال يا رب أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنة، والضمير في { فديناه } عائد على الذبح، و " الذبح " اسم لما يذبح ووصفه بالعظم لأنه متقبل يقيناً قاله مجاهد، وقال عمر بن عبيد: " الذبح " الكبش و " العظيم " لجري السنة، وكونه ديناً باقياً آخر الدهر، وقال الحسن بن الفضل: عظم لأنه كان من عند الله، وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين، وروي عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير: أن كونه عظيماً هو أنه من كباش الجنة، رعى فيها أربعين خريفاً، وقال ابن عباس: هو الكبش الذي قرب ولد آدم، وقال ابن عباس والحسن: كان وعلاً اُهبط عليه من ثبير، وقال الجمهور: إنه كبش أبيض أقرن أعين وجده وراءه مربوطاً بسمرة.

السابقالتالي
2