الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }

الرؤية في قوله { ألم تر } رؤية القلب، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب، لأن الحجة بها تقوم، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة، فأحياناً تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه، و { أن } سادت مسد المفعولين الذين للرؤية، هذا مذهب سيبويه لأن { أن } جملة مع ما دخلت عليه، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك، لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي { أن } ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } حقاً، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة، وقوله { ألوانها } يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عدداً، و { جدد } جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً، ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]

كأنّ سراته وحدَّة متنه   كنائن يحوي فوقهن دليص
وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال { جدد } في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية، وقرأ الزهري " جَدد " بفتح الجيم، وقوله { وغرابيب سود } لفظان لمعنى واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض الشيخ الغربيب " ، يعني الذي يخضب بالسواد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا النحو، وقوله { مختلف ألوانه } قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره { والأنعام } خلق { مختلف ألوانه } ، { والدواب } يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيهاً منهما، وقوله { كذلك } يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسناً، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله، { إنما يخشى الله من عباده العلماء } أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها.

قال القاضي أبو محمد: وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية، وسببها والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خشية الله رأس كل حكمة " ، وقال صلى الله عليه وسلم: " رأس الحكمة مخافة الله " ، فهذا هو الكلام المنير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علماً، وقال مسروق وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وقال تعالى:سيذكر من يخشى } [الأعلى: 1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعلمكم بالله أشدكم له خشية " ، وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله. وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار، به جهلاً، وقال مجاهد والشعبي: إنما العالم من يخشى الله، وإنما في هذه الآية تخصيص { العلماء } لا للحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة، وإذا قلت إنما الله إله واحد، بان لك الفرق فتأمله، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.