الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } * { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }

روي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة، وقيل بل كانت شائعة من كفار قريش قالوا لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ادخلوا في أمرنا وأقروا بآلهتنا واعبدوها معنا ونحن ليقيننا أنه لا بعث بعد الموت ولا رجوع نتضمن لكم حمل خطاياكم فيما دعوناكم إليه إن كان في ذلك درك كما تزعمون، وقولهم { ولنحمل } إخبار أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالثقل ولكنهم أخرجوه في صيغة الأمر لأنها أوجب وأشد تأكيداً في نفس السامع من المجازاة وهذا نحو قال الشاعر [مدثار بن شيبان النمري]:[الوافر]

فقلت ادعي وأدع فإن أندى   لصوت أن ينادي داعيان
ولكونه خبراً حسن تكذيبهم فيه، فأخبر الله عز وجل أن ذلك باطل وأنهم لو فعلوه لم ينحمل عن أحد من هؤلاء المغترين بهم شيء من خطاياه التي تختص به، وقرأ الجمهور " ولنحملْ " بجزم اللام، وقرأ عيسى ونوح القاري " ولنحمل " بكسر اللام وقرأ داود بن أبي هند " من خطَيِهم " بفتح الطاء وكسر الياء وحكى عنه أبو عمرو أنه قرأ " من خِطيئاتهم " بكسر الطاء وهمزة وتاء بعد الألف، وقال مجاهد: الحمل هو من الحمالة لا من الحمل على الظهر.

ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفرة أنهم يحملون أثقالهم من كفرهم الذي يجترحونه ويتلبسون به، و { أثقالاً مع أثقالهم } يريد ما يلحقهم من إغوائهم لعامتهم وأتباعهم فإنه يلحق كل داع إلى ضلالة كفل منها حسب الحديث المشهور، " أيما داع إلى هدى فاتبع عليه فله مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً وأيما داع دعا إلى ضلالة " الحديث.

قال القاضي أبو محمد: وهي وإن كانت من { أثقالهم } فلكونها بسبب غيرهم وعن غير كفر تلبسوه فرق بينها وبين { أثقالهم } ولم ينسبها إلى غيرهم بل جعلها في رتبة فقط فهم فيها إنما يزرون بوزر أنفسهم، وقد يترتب حمل أثقال الغير بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه يقتص للمظلوم بأن يعطى من حسنات ظالمه فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه " ، وقوله تعالى: { وليسألن } ، يريد على جهة التوبيخ والتقريع لا على جهة الاستفهام والاستعلام، و { يفترون } ، معناه يختلقون من الكفر ودعوى الصاحبة والولد لله تعالى وغير ذلك، وقوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحاً } الآية قصة فيها تسلية لمحمد عليه السلام عما تضمنته الآية قبلها من تعنت قومه وفتنتهم للمؤمنين وغير ذلك، وفيها وعيد لهم بتمثيل أمرهم بأمر قوم نوح، والواو في قوله { ولقد } عاطفة جملة كلام على جملة، والقسم فيها بعيد، وقوله تعالى: { أرسلنا } ، { فلبث } ، هذا العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولاً يدعو، وقد يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه من لدن مولده إلى غرق قومه، وأما على التأويل الأول فاختلف في سنيه التي بعث عندها، فقيل أربعون، وقيل ثمانون، وقال عون بن أبي شداد: ثلاثمائة وخمسون، وكذلك يحتمل أن تكون وفاته عليه السلام عند غرق قومه بعد ذلك بيسير.

السابقالتالي
2