الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } * { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } * { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }

القائل سليمان عليه السلام و { الملأ } المنادى جمعه من الإنس والجن، واختلف المتأولون في غرضه في استدعاء " عرشها " فقال قتادة ذكر له بعظم وجودة فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي أموالهم، و " الإسلام " على هذا التأويل الدين، وهو قول ابن جريج، وقال ابن زيد استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله وليغرب عليها، و { مسلمين } في هذا التأويل بمعنى مستسلمين وهو قول ابن عباس وذكره صلة في العبارة لا تأثير لاستسلامهم في غرض سليمان، ويحتمل أن يكون بمعنى الإسلام، وظاهر هذه الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجيء هديتها ورده إياها، وقد بعث الهدهد بالكتاب وعلى هذا جمهور المفسرين، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال هذه المقالة هي ابتداء النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال لهولها عرش عظيم } [النمل: 23] قال سليمان { أيكم يأتيني بعرشها } ثم وقع في ترتيب القصص تقديم وتأخير.

قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أصح وروي أن عرشها كان من ذهب وفضة مرصعاً بالياقوت والجوهر وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق، وقرأ الجمهور " قال عفريت " وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي " قال عفرية " ، ورويت عن أبي بكر الصديق، وقرأت فرقة " قال عِفر " بكسر العين، وكل ذلك لغات فيه وهو من الشياطين القوي المارد والتاء في { عفريت } زائدة، وقد قالوا تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الإذاية، قال وهب بن منبه اسم هذا العفريت كودا، وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني ومن هذا الاسم قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنه كوكب في إثر عفرية   مصوب في سواد الليل منقضب
وقوله { قبل أن تقوم من مقامك } قال مجاهد وقتادة وابن منبه معناه قبل قيامك من مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى وقت الظهر في كل يوم، وقيل معناه قبل أن تستوي من جلوسك قائماً، و { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } ، قال ابن جبير وقتادة قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى، وقال مجاهد معناه قبل أن يحتاج إلى التغميض أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض وذلك ارتداد.

قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان يقابلان قول من قال إن القيام هو من مجلس الحكم، ومن قال إن القيام هو من الجلوس، فيقول في ارتداد الطرف هو أن يطرف أي قبل أن تصلح عينيك وتفتحهما، وذلك أن الثاني تعاطى الأقصر في المدة ولا بد. وقوله { لَقوي أمين } معناه " قوي " على حمله { أمين } على ما فيه، ويروى أن بلقيس لما فصلت من بلدها متوجهة إلى سليمان تركت العرش تحت أقفال وثقاف حصين فلما علم سليمان بانفصالها أراد أن يغرب عليها بأن تجد عرشها عنده ليبين لها أن ملكه لا يضاهى، فاستدعى سوقه فدعا الذي عنده علم من التوراة وهو { الكتاب } المشار إليه باسم الله الأعظم الذي كانت العادة في ذلك الزمن أن لا يدعو به أحد إلا أجيب، فشقت الأرض بذلك العرش حتى نبع بين يدي سليمان عليه السلام وقيل بل جيء به في الهواء.

السابقالتالي
2