الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ } * { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } * { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } * { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } * { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } * { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } * { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } * { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } * { فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } * { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }

ثم إن الله عز وجل لما أراد إظهار أمره في نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بني إسرائيل ليلاً من مصر، وأخبر أنهم سيتبعون وأمره بالسير تجاه البحر، وأمره بأن يستعير بنو إسرائيل حلي القبط وأموالهم وأن يستكثروا من أخذ أموالهم كيف ما استطاعوا هذا فيما رواه بعض المفسرين، وأمره باتخاذ خبز الزاد، فروي أنه أمر باتخاذه فطيراً لأنه أبقى وأثبت، وروي أن الحركة أعجلتهم عن اختمار خبز الزاد، وخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحراً فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول موسى هكذا أمرت، فلما أصبح فرعون وعلم بسرى موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه ستمائة ألف أدهم من الخيل حاشى سائر الألوان، وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً قاله ابن عباس، والله أعلم بصحته، وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم من بني إسرائيل وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك العدد، قال ابن عباس كان مع فرعون ألف جبار كلهم عليه تاج وكلهم أمير خيل، و " الشرذمة " الجمع القليل المحتقر، وشرذمة كل شيء بقيته الخسيسة وأنشد أبو عبيدة: " تخذين في شراذم النعال ".

وقال الآخر: [الرجز]
جاء الشتاء وقميصي أخلاق   شراذم يضحك منها النواق
وقوله { لغائظون } يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الأموال عارية وتفلتهم منهم تلك الليلة على ما روي، قال أبو حاتم، وقرأ من لا يؤخذ عنه " لشر ذمة قليلون " وليست هذه موثوقة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " حذرون " وهو جمع حذر وهو المطبوع على الحذر وهو هاهنا غير عامل، وكذلك هو في قول أبي أحمر: [السريع]

هل ينسئن يومي إلى غيره   أنى حوالى وإني حذر
واختلف في عمل فعل فقال سيبويه إنه عامل وأنشد: [الكامل]

حذر أموراً لا تضير وآمن   ما ليس منجيه من الأقدار
وادعى اللاحقي تدليس هذا البيت على سيبويه، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي " حاذرون " وهو الذي أخذ يحذر، وقال عباس بن مرداس: [الوافر]

وإني حاذر أنهي سلاحي   إلى أوصال ذيال صنيع
وقرأ ابن أبي عمارة وسميط بن عجلان " حادرون " بالدال غير منقوطة من قولهم عين حدرة أي معينة فالمعنى ممتلئون غضباً وأنفة، والضمير في قوله { فأخرجناهم } عائد على القبط، و " الجنات والعيون " بحافتي النيل في أسوان إلى رشيد قاله ابن عمر وغيره، و " الكنوز " قيل هي إشارة إلى الأموال التي احتجنوها قال مجاهد لأنهم لم ينفقوها قط في طاعة، وقيل هي إشارة إلى كنوز المعظم ومطالبه وهي باقية إلى اليوم، " والمقام الكريم " قال ابن لهيعة هو الفيوم، وقيل يعني به المنابر، وقيل مجالس الأمراء والحكام، وقال النقاش المساكن الحسان، وقرأ الأعرج وقتادة بضم الميم من " مُقام " ،وتوريث بني إسرائيل يحتمل مقصدين: أحدهما أنه تعالى ورثهم هذه الصفة من أرض الشام، والآخر أنه ورثهم مصر ولكن بعد مدة طويلة من الدهر قاله الحسن، على أن التواريخ لم تتضمن ملك بني إسرائيل في مصر و { مشرقين } ، معناه عند شروق الشمس، أي حين دخلوا فيه، وقيل معناه نحو الشرق، وقرأ الحسن " فاتّبعوهم " بصلة الألف وشد التاء، والجمهور على قطع الألف وسكون التاء، فلما لحق فرعون بجمعه جمع موسى وقرب منهم ورأت بنو إسرائيل العدد القوي وراءهم والبحر أمامهم ساءت ظنونهم وقالوا لموسى عليه السلام على جهة التوبيخ والجفاء { إنا لمدركون } أي هذا رأيك، فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكر وعد الله له بالهداية والظفر، وقرأ الجمهور " إنا لمدركون " ، وقرأ الأعرج وابن عمير " إنا لمدَرّكون " بفتح الدال وشدّ الراء ومعناها يتتابع علينا حتى نفنى، وقرأ حمزة " تريءَ الجمعان " بكسر الراء بمد ثم بهمز، وروي مثله عن عاصم، وروي أيضاً عنه مفتوحاً ممدوداً، والجمهور يقرؤونه مثل تداعى وهذا هو الصواب، لأنه تفاعل، قال أبو حاتم وقراءة حمزة في هذا الحرف محال، وحمل عليه، قال وما روي عن الأعمش وابن وثاب خطأ.