الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } * { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } * { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }

لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه الذي هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته، و " البروج " هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قولهوالقمر قدرناه منازل } [يس: 39] والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجاً تشبيهاً ببروج السماء. ومنه قوله تعالى:ولو كنتم في بروج مشيّدة } [النساء: 78]. وقال الأخطل: [البسيط]

كأنها برج روميّ يشيدُه   لز بجص وآجور وأحجار
وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها " البروج " القصور في الجنة، وقال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤونها " في السماء قصوراً " ، وقيل " البروج " الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به. وقرأ الجمهور " سراجاً " وهي الشمس، وقرأ حمزة الكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش " سرجاً " وهو اسم جميع الأنوار، ثم خص القمر بالذكر تشريفاً، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش أيضاً " سرْجاً " بسكون الراء، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن " وقُمُراً " بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد أن يكون عنى جمعاً كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي، وقوله { خلفة } أي هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، ومن هذا المعنى قول زهير: [الطويل]

بها العين والأرآم يمشين خلفة   وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً [يزيد بن معاوية]: [المديد]

ولها بالماطرون إذا   أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت   سكنت من جلق بيعا
في بيوت وسط دسكرة   حولها الزيتون قد ينعا
وقال مجاهد { خلفة } من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، وما قدمناه أقوى، وقال مجاهد وغيره من النظار { لمن أراد أن يذكر } أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفهم والفكر، وقال عمرو بن الخطاب والحسن وابن عباس معناه { لمن أراد أن يذكر } ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ حمزة وحده " يذْكُر " بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي، وقرأ الباقون " يذّكر " بشد الذال، وفي مصحف أبي بن كعب " يتذكر " بزيادة تاء، ثم قال تعالى { لمن أرد أن يذكر أو أراد شكوراً } جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور، و " العباد " والعبيد بمعنى إلا أن العباد يستعمل في مواضع التنويه، وسمي قوم من عبد القيس العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب، وقيل لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله وإليهم ينسب عدي بن زيد العبادي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن " وعبد الرحمن " ، ذكره الثعلبي، وقوله { الذين يمشون على الأرض } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم نذكر من ذلك العظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال، { هوناً } ، بمعنى أمره كله هون أي لين، قال مجاهد، بالحلم والوقار، وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال الحسن حلماً إن جهل عليهم لم يجهلوا، وذهبت فرقة إلى أن { هوناً } مرتبط بقوله { يمشون على الأرض } أي المشي هو هون، ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي { هوناً } مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بيّناه وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش { هوناً } رويداً وهو ذئيب أطلس.

السابقالتالي
2 3