الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزوله الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضاً يدفعه اللفظ، ولذلك ساغ الخلاف.

وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالىيريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185] وقوله تعالى:ما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78] وقوله:واتقوا الله ما استطعتم } [التغابن: 16].

واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم. على أنه ليس واقعاً الآن في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ولا يحرم ذلك شيئاً من عقائد الشرع، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعاً به.

قال القاضي أبو محمد: وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث.

واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، وتكليف الشرع له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورةتبت يدا أبي لهب } [المسد: 1]، وقالت فرقة لم يقع قط، وقوله تعالى:سيصلى ناراً } [المسد:3] إنما معناه إن وافى على كفره.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما لا يطاق ينقسم أقساماً: فمنه المحال عقلاً كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة، كرفع الإنسان جبلاً، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير، و { يكلف } يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره " عبادة " أو شيئاً، وقرأ ابن أبي عبلة " إلا وَسِعها " بفتح الواو وكسر السين، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ إلا وسعته، كما قالوسع كرسيه السموات والأرض } [البقرة: 255] وكما قالوسع كل شيء علماً } [طه:98] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي، وفمي في الحجر.

وقوله تعالى: { لها ما كسبت } يريد من الحسنات، { وعليها ما اكتسبت } يريد من السيئات، قاله السدي وجماعة من المفسرين، لا خلاف في ذلك، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان.

السابقالتالي
2 3