الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

لفظة { أحل } تقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك، و { ليلة } نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي: [الوافر]

همُ المَولَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنا   وإنّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ
و { الرفث } كناية عن الجماع، لأن الله تعالى كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي، وقرأ ابن مسعود " الرفوث " ، و { الرفث } في غير هذا ما فحش من القول، ومنه قول الشاعر: [الرجز]

عَنِ اللّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ   
وقال أبو إسحاق: " الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع ".

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أو كلام في هذه المعاني، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه "

وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، على الخلاف، منهم عمر بن الخطاب، جاء إلى امرأته فأرادها، فقالت له: قد نمت، فظن أنها تعتل، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعاً: وقال السدي: جرى له هذا في جارية له، قالوا: فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري، فنزل صدر الآية فيهم، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه، وروي أن صرمة بن قيس، ويقال صرمة بن مالك، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى: { وكلوا واشربوا } ، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك، كما قال النابغة الجعدي: [المتقارب]
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا   تَدَاعتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
وقال النابغة أيضاً: [المتقارب]

لَبِسْت أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ   وَأَفْنَيْت بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا
فشبه خلطته لهم باللباس، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره، وقال مجاهد والسدي: { لباس }: سكن، أي يسكن بعضهم إلى بعض، وإنما سميت هذه الأفعال اختياناً لعاقبة المعصية وجزائها، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها، و { فتاب عليكم } معناه من المعصية التي واقعتموها، و { عفا عنكم } يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيداً، وتأنيساً بزيادة على التوبة، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف، بمعنى تركه لكم، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك.

السابقالتالي
2 3