الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } * { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } * { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } * { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }

هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام، وقوله { فلعلك } تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك، و " الباخع نفسه " هو مهلكها وجداً وحزناً على أمر ما، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه   لشيء نحته عن يديه المقادر
يريد نحته فخفف وقوله { على آثارهم } ، استعارة فصيحة، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم، وقوله { بهذا الحديث } أي بالقرآن الذي يحدثك به، و { أسفاً } نصب على المصدر، قال الزجاج: و " الأسف " المبالغة في حزن أو غضب.

قال القاضي أبو محمد: و " الأسف " في هذا الموضع الحزن، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضباً، كقوله تعالى:فلما آسفونا } [الزخرف: 55] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة: هنا { أسفاً } غضباً، قال مجاهد { أسفاً } جزعاً وقال قتادة أيضاً: حزناً، ومن هذه اللفظة قول الأعشى: [الطويل]

أرى رجلاً منكم أسيفاً كأنما   يضم إلى كشحيه كفّاً مخضبا
يريد حزيناً كأنه مقطوع اليد، وقوله { إنا جعلنا ما على الأرض زينة } ، الآية بسط في التسلية أي لا تهتم للدنيا وأهلها فأمرها وأمرهم أقل بفنائه وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحاناً وخبرة، واختلف في المراد، بـ { ما } ، فقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد الرجال وقاله مجاهد، وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء، وقالت فرقة أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل في هذا الجبال الصم وكلا ما لا زين فيه كالحيات والعقارب، وقالت فرقة: أراد كل ما على الأرض عموماً وليس شيء إلا فيه زينة من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. وفي معنى هذه الآية، قول النبي عليه السلام: " الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء " و { زينة } مفعول ثان أو مفعول من أجله بحسب معنى " جعل ". وقوله { لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } أي لنختبرهم وفي هذا وعيد ما، قال سفيان الثوري: { أحسنهم عملاً } أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العسقلاني: أحسن عملاً: أترك لها.

قال القاضي أبو محمد: وكان أبي رضي الله عنه يقول: أحسن العمل أخذ بحق واتفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه. وقوله { وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } ، أي يرجع كل ذلك تراباً غير متزين بنبات ونحوه، و " الجرز " الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة، فهي البلقع، وهذه حالة الأرض العامرة الخالية بالدين لا بد لها من هذا في الدنيا جزءاً جزءاً من الأرض ثم يعمها ذلك بأجمعها عند القيامة، يقال: جرزت الأرض بقحط أو جراد أو نحوه إذا ذهب نباتها وبقيت لا شيء فيها ولا نفع، وأرضون أجراز، قال الزجاج: والجرز الأرض التي لا تنبت.

السابقالتالي
2