الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } * { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً }

هذه آية: تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم، لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مصيبون، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا، فكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم، و { الناس } يراد به كفار عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها، و { الهدى } هو شرع الله والبيان الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، و " الاستغفار " هنا طلب المغفرة على فارط الذنب كفراً وغيره، و { سنة الأولين } هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظلمة والريح وغير ذلك، { أو يأتيهم العذاب قبلاً } أي مقابلة عياناً، والمعنى عذاباً غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيم وكذلك صدق هذا الوعيد في بدر، وقال مجاهد: { قبلاً } معناه فجأة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ومجاهد وعيسى بن عمر " قِبَلا " بكسر القاف وفتح الباء، وقرأ عاصم والكسائي وحمزة والحسن والأعرج " قُبُلاً " بضم القاف والباء، ويحتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى قبل، لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، والآخر أن يكون جمع قبيل، أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً، وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً: " قُبْلاً " بضم القاف وسكون الباء، وقوله { وما نرسل المرسلين } الآية، كأنه لما تفجع عليهم وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسار، قال: وليس الأمر كما يظنوا، والرسل لم نبعثهم ليجادلوا، ولا لتتمنى عليهم الاقتراحات، وإنما بعثناهم مبشرين من آمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار، و { يدحضوا } معناه يزهقوا، و " الدحض " الطين الذي يزهق فيه، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

وردت ونجى اليشكريّ نجاؤه   وحاد كما حاد البعير عن الدحض
وقوله { واتخذوا } إلى آخر الآية توعيد، و " الآيات " تجمع آيات القرآن والعلامات التي ظهرت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله { وما أنذروا هزواً } يريد من عذاب الآخرة، والتقدير وما أنذروه فحذف الضمير و " الهزاء ": السخر والاستخفاف، كقولهم أساطير الأولين، وقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا وقوله { ومن أظلم } استفهام بمعنى التقرير، وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الأمر على ما لا جواب له فيه إلا الذي يريد خصمه، فالمعنى لا أحد { أظلم ممن } هذه صفته، أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره التي أسلفها هذه غاية الانهمال، ونسب السيئات إلى اليدين، من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في المعاني، استعارة، ثم أخبر الله عز وجل عنهم وعن فعله بهم، جزاء على إعراضهم وتكسبهم القبيح، فإنه تعالى: { جعل على قلوبهم أكنة } وهي جمع كنان، وهو كالغلاف الساتر واختلف الناس في هذا وما أشبهه من الختم والطبع ونحوه، هل هو حقيقة أو مجاز، والحقيقة في هذا غير مستيحلة، والتجوز أيضاً فصيح، أي لما كانت هذه المعاني مانعة في الأجسام وحاملة، استعيرت للقلوب التي قد أقساها الله تعالى وأقصاها عن الخير، وأما " الوقر " في الآذان، فاستعارة بينة لأنا نحس الكفرة يسمعون الدعاء إلى الشرع سماعاً تاماً، ولكن لما كانوا لا يؤثر ذلك فيهم إلا كما يؤثر في الذي به وقر، فلا يسمع، وشبهوا به، وكذلك العمى والصم والبكم، كلها استعارات، وإنما الخلاف في أوصاف القلب، هل هي حقيقة أو مجاز، و " الوقر ": الثقل في السمع، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم، وإن دعوا إلى الهدى فإنهم لا يهتدون أبداً، وهذا يخرج على أحد تأويلين: أحدهما أن يكون هذا اللفظ العام يراد به الخاص، ممن حتم الله عليه أن لا يؤمن ولا يهتدي أبداً، ويخرج عن العموم كل من قضى الله بهداه في ثاني حال، والآخر أن يريد: وإن تدعهم إلى الهدى جميعاً فلن يؤمنوا جميعاً أبداً، أي إنهم ربما آمن الأفراد، ويضطرنا إلى أحد هذين التأويلين، أنا نجد المخبر عنهم بهذا الخبر قد آمن منهم واهتدى كثير.