الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } * { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } * { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }

هذه الآية تهديد لأهل مكة، وهم المراد بـ { الذين } في قول الأكثر، وقال مجاهد: المراد نمرود بن كنعان، والأول أظهر، ونصب { السيئات } يحتمل وجهين: أحدهما أن ينصب بقوله { أفأمن } وتكون { السيئات } على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به، ويكون قوله { أن يخسف } بدلاً منها. والوجه الثاني أن ينصب بـ { مكروا } ، وعدي { مكروا } لأنه بمعنى عملوا وفعلوا، و { السيئات } على هذا معاصي الكفر وغيره، قاله قتادة، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش، أن قوماً في هذه الأمة، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم، و { تقلبهم } سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها، و " المعجز " المفلت هرباً كأنه عجز طالبه، وقوله { على تخوف } أي على جهة التخوف، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر: [البسيط]

تخوف السير منها تامكاً فرداً   كما تخوف عود النبعة السفن
والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى " التخوف " في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك، حتى سمع هذا البيت، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة " التخوف " ، فقال له يا أمير المؤمنين: إن أبي يتخوفني مالي، فقال عُمر: الله كبر { أو يأخذهم على تخوف } ، ومنه قول طرفة:

وجامل خوف من نبيه   زجرُ المعلى أبداً والسفيح
ويروى من نبته، ومنه قول الآخر: [الوافر]

ألأم على الهجاء وكل يوم   تلاقيني من الجيران غول
تخوف غدرهم مالي وهدي   سلاسل في الحلوق لها صليل
يريد الأهاجي، ومنه قول النابغة: [الطويل]

تخوفهم حتى أذل سراتهم   بطعن ضرار بعد قبح الصفائح
قال القاضي أبو محمد: وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين: أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها، ويؤيد هذا قوله { فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع: والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل، وقالت فرقة: " التخوف " هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول تكلف ما، وقوله { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر " أو لم يروا " بالياء على لفظ الغائب، وكذلك في العنكبوت، فهي جارية على قوله: { أو يأخذهم } ، وقوله: { أو يأتيهم } وقوله: { لا يشعرون } ، ورجحها الطبري، وقرأ حمزة والكسائي " أولم تروا " بالتاء في الموضعين، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما: أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق، واختلف عنه في العنكبوت، وقوله { من شيء } لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله { يتفيأ ظلاله } لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل، والرؤية هنا هي رؤية القلب، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين، وقرأ أبو عمرو وحده " تتفيأ " بالتاء من فوق، وهي قراءة عيسى ويعقوب، وقرأ الجمهور " يتفيأ " ، قال أبو علي: إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس، فيعم، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب، وكذلك قول حميد بن ثور:


السابقالتالي
2 3