الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } * { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر، تهمماً بتقبيح فعلهم والتشنيع لخطابهم، وذلك كقوله تعالىفلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [الصف: 5] والمراد ما ذكرناه فكأنه قال إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله، وقوله: { إنما يفتري الكذب } بمعنى يكذب، وهذه مقاومة للذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مفتر، و { إنما } أبداً حاصرة، لكن حصرها يختلف باختلاف المعاني التي تقع فيها، فقد يربط المعنى أن يكون حصرها حقيقياً كقوله تعالى:إنما الله إله واحد } [النساء: 171] وقد يقتضي المعنى أن يكون حصرها تجوزاً ومبالغة، كقولك: إنما الشجاع عنترة، وهكذا هي في هذه الآية، قال الزجاج: يفتري هذا الصنف لأنهم إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، كذبوا بها، فهذا أفحش الكذب، وكرر المعنى في قوله: { وأولئك هم الكاذبون } لفائدة إيقاع الصفة بالكذب عليهم إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضيه الخبر فبدأ في هذه الآية بالخبر، ثم أكد بالصفة، وقد اعترض هذا النظر مكي، وليس اعتراضه بالقوي، و { من } في قوله { من كفر } بدل من قوله { هم الكاذبون } ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله.

قال القاضي أبو محمد: وهذا يتأكد بما روي من أن قوله { وأولئك هم الكاذبون } يراد به عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمه وخباب وصهيب وأشباههم، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة، يعذبونهم ليرتدوا، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول، يروى أن عمار ابن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده، ثم ابتدأ الإخبار: " أن من شرح صدراً بالكفر فعليهم " ، وهذا الضمير على معنى من لا على لفظها.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والظاهر من هذه الآية أنها مكية وقالت فرقة { من } في قوله { من كفر } ابتداء، وقوله { من شرح } تخصيص منه، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك بـ { ولكن } ، وقوله { فعليهم } خبر { من } الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى، لأن الإخبار في قوله { من كفر } إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر، و { صدراً } نصب على التمييز، وقوله { شرح بالكفر صدراً } معناه انبسط إلى الكفر باختياره، ويروى

السابقالتالي
2 3