الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } * { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } * { فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } * { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } * { قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } * { قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }

{ إذ } نصب بإضمار فعل تقديره: اذكر إذ قال ربك، و " البشر " هنا آدم، وهو مأخوذ من البشرة، وهي وجه الجلد، في الأشهر من القول. ومنه قول النبي عليه السلام: " وافقوا البشر " وقيل البشرة ما يلي اللحم، ومنه قولهم في المثل: إنما يعاتب الأديم ذو البشرة لأن تلك الجهة هي التي تبشر.

وأخبر الله تعالى الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور - فهي مخلوقات لطاف - فأخبرهم: أنه لا يخلق جسماً حياً ذا بشرة وأنه يخلقه { من صلصال }.

قال القاضي أبو محمد: " والبشر " والبشارة أيضاً أصلهما البشرة لأنهما فيها يظهران.

و { سويته } معناه: كملته وأتقنته حتى استوت أجزاؤه على ما يجب، وقوله: { من روحي } إضافة خلق وملك إلى خالق مالك، أي من الروح الذي هو لي ولفظة الروح هنا للجنس.

وقوله: { فقعوا } من وقع يقع، وفتحت القاف لأجل حرف الحلق، وهذه اللفظة تقوي أن سجود الملائكة إنما كان على المعهود عندنا، لا أنه خضوع وتسليم، وإشارة، كما قال بعض الناس، وشبهوه بقول الشاعر [أبي الأخزر الحماني]: [الطويل]

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها   كما سجدت نصرانة لم تحنف
وهذا البيت يشبه أن يكون السجود فيه كالمعهود عندنا.

وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس: أنه قال: خلق الله ملائكة أمرهم بالسجود لآدم فأبوا، فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق آخرين فأمرهم بالسجود فأطاعوا إلا إبليس فإنه كان من الأولين.

قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس - من الأولين - يحتمل أن يريد في حالهم وكفرهم، ويحتمل أن يريد: في أنه بقي منهم.

وقوله: { كلهم أجمعون } هو -عند سيبويه - تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمن الأول. وقال غيره: { كلهم } لو وقف عليه - لصلحت للاستيفاء، وصلحت على معنى المبالغة مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كل الناس يعرف كذا، وهو يريد أن المذكور أمر مشتهر، فلما قال: { أجمعون } رفع الاحتمال في أن يبقى منهم أحد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد. وقال ابن المبرد: لو وقف على { كلهم } لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن كثيرة، فلما قال: { أجمعون } دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.

قال القاضي أبو محمد: واعترض قول المبرد بأنه جعل قوله: { أجمعون } حالاً. بمعنى مجتمعين، يلزمه - على هذا - أن يكون أجمعين، يقرب من التنكير إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تأبى قوله.

وقوله: { إلا إبليس } قيل: إنه استثناء من الأول، وقيل: إنه ليس من الأول. وهذا متركب على الخلاف في { إبليس } ، هل هو من الملائكة أم لا؟ والظاهر - من كثير من الأحاديث ومن هذه الآية - أنه من الملائكة وذلك أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود، ولو لم يكن إبليس من الملائكة لم يذنب في ترك السجود.

السابقالتالي
2