الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } * { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } * { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } * { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }

المعنى: فجاء الرسول - وهو الساقي - إلى يوسف فقال له: يا يوسف { أيها الصديق } - وسماه صديقاً من حيث كان جرب صدقه في غير شيء - وهو بناء مبالغة من صدق، وسمي أبو بكر صديقاً من صدق غيره، إذ مع كل تصديق صدق، فالمصدق بالحقائق صادق أيضاً، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى:والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } [الحديد: 19].

ثم قال: { أفتنا في سبع بقرات } أي فيمن رأى في المنام سبع بقرات، وحكى النقاش حديثاً روى فيه: أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه، وأخرجه من السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سبباً لفرج يوسف. ويروى أن الملك كان يرى { سبع بقرات سمان } يخرجن من نهر، وتخرج وراءها { سبع عجاف } ، فتأكل العجاف السمان، فكان يعجب كيف غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف، وكان يرى { سبع سنبلات خضر } وقد التفت بها سبع يابسات، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضاً لذلك.

وقوله: { لعلهم يعلمون } أي تأويل هذه الرؤيا، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس. وقيل: { لعلهم يعلمون } مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سبباً لتخلصك.

وقوله تعالى: { قال تزرعون } الآية، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول:

أحدها: تعبير بالمعنى لا باللفظ.

والثاني: عرض رأي وأمر به، وهو قوله: { فذروه في سنبله }.

والثالث: الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة.

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل هذا ألا يكون غيباً، بل علم العبارة، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف، كما أعطى أن النهر مثال للزمان. إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالاً للسنين.

و { دأبا } معناه: ملازمة لعادتكم في الزراعة، ومنه قول امرىء القيس: [الطويل]

كدأبك من أم الحويرث قبلها   ............................ البيت
وقرأ جمهور السبعة " دأْباً " بإسكان الهمزة، وقرأ عاصم وحده " دأَباً " بفتح الهمزة، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة، وهما مثل: نهر ونهر. والناصب لقوله: { دأباً } { تزرعون } ، عند أبي العباس المبرد، إذ في قوله { تزرعون } تدأبون، وهي عنده مثل قولهم: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء؛ وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر، كأنه قال: تزرعون تدأبون دأباً.

وقوله { فما حصدتم فذروه } هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب، ويؤكل الأقدم فالأقدم؛ فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الناس الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر، وادخروا أيضاً الشيء الذي يصاب في أعوام الجدب على قلته، وحملت الأعوام بعضها على بعض حتى يتخلص الناس، وإلى هذه السنين أشار النبي عليه السلام في دعائه على قريش:

السابقالتالي
2