الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } * { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

ظن ابن نوح أن ذلك المطر والماء على العادة، وقوله: { لا عاصم } قيل فيه: إنه على لفظة فاعل؛ وقوله: { إلا مَنْ رحم } يريد إلا الله الراحم، فـ { مَنْ } كناية عن اسم الله تعالى، المعنى: لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا فـ { مَنْ } في موضع رفع، وقيل: قوله: { إلا مَنْ رحم } استثناء منقطع كأنه قال: لا عاصم اليوم موجود، لكن من رحم الله موجود، وحسن هذا من جهة المعنى، أن نفي العاصم يقتضي نفي المعصوم. فهو حاصل بالمعنى. وأما من جهة اللفظ، فـ { مَنْ } في موضع نصب على حد قول النابغة: إلا الأواري. ولا يجوز أن تكون في موضع رفع على حد قول الشاعر: [الرجز].

وبلدة ليس بها أنيس   إلا اليعافير وإلا العيس
إذ هذان أنيس ذلك الموضع القفر، والمعصوم هنا ليس بعاصم بوجه، وقيل { عاصم } معناه ذو اعتصام، فـ { عاصم } على هذا في معنى معصوم، ويجيء الاستثناء مستقيماً، و { مَنْ } في موضع رفع، و { اليوم } ظرف، وهو متعلق بقوله: { من أمر الله } ، أو بالخير الذي تقديره: كائن اليوم، ولا يصح تعلقه بـ { عاصم } لأنه كان يجيء منوناً: لا عاصماً اليوم يرجع إلى أصل النصب لئلا يرجع ثلاثة أشياء واحداً، وإنما القانون أن يكون الشيئان واحداً: { لا } وما عملت فيه، ومثال النحويين في هذه المسألة: لا أمراً يوم الجمعة لك، فإن أعلمت في يوم لك قلت: لا أمر.

و { بينهما } يريد بين نوح وابنه، فكان الابن ممن غرق، وقوله تعالى: { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } الآية، بناء الفعل للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت، وكذلك بناء الأفعال بعد ذلك في سائر الآية؛ وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال: هذا كلام القادرين، و " البلع " هو تجرع الشيء وازدراده، فشبه قبض الأرض للماء وتسربه فيها بذلك، وأمرت بالتشبيه وأضاف الماء إليها إذ هو عليها وحاصل فيها، و " السماء " في هذه الآية، إما السماء المظلة، وإما السحب، و " الإقلاع " عن الشيء تركه، والمعنى: أقلعي عن الإمطار، و { غيض } معناه نقص، وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى جفوف كقوله: { وغيض الماء } ، وكقوله:وما تغيض الأرحام وما تزداد } [الرعد: 8] وأكثر المفسرين على أن ذلك في الحيض، وكذلك قول الأسود بن يعفر:

ما غيض من بصري ومن أجلادي   
وذلك أن الإنسان الهرم إنما تنقصه بجفوف وقضافة وقوله { وقضي الأمر } إشارة إلى جميع القصة: بعث الماء وإهلاك الأمم وإنجاء أهل السفينة. وروي أن نوحاً عليه السلام ركب في السفينة من عين وردة بالشام أول يوم من رجب، وقيل: في العاشر منه، وقيل: في الخامس عشر، وقيل: في السابع عشر، واستوت السفينة في ذي الحجة، وأقامت على { الجودي } شهراً، وقيل له: اهبط في يوم عاشوراء فصامه وصامه من معه من ناس ووحوش: وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، وذكر أيضاً حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم:

السابقالتالي
2