الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } ، أي: عدد الشهور، { عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } ، وهي المحرّم وصفر وربيع الأول وربيع الثاني وجُمادى الأول وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة. وقوله: { فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } أي: في حكم الله. وقيل: في اللوح المحفوظ. قرأ أبو جعفر اثنا عشر، وتسعة عشر، وأحدى عشر، بسكون الشين، وقرأ العامة بفتحها، { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } ، والمراد منه: الشهور الهلالية، وهي الشهور التي يعتدُّ بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوماً بنقصان الأهلة. والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعاً وخمسين يوماً، { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ، من الشهور أربعة حرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، واحد فرد وثلاثة سَرْد، { ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } ، أي: الحساب المستقيم. { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } ، قيل: قوله: " فيهن " ينصرف إلى جميع شهور السنة، أي: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعصية وترك الطاعة. وقيل: " فيهن " أي: في الأشهر الحرم. قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهنّ أعظم من الظلم فيما سواهنّ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً. وقال ابن عباس: فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهنّ. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لا تجعلوا حلالها حراماً، ولا حرامها حلالاً، كفعل أهل الشرك وهو النسيء. { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } ، جميعاً عامة، { كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } ، واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم. فقال قوم: كان كبيراً ثم نسخ بقوله: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } ، كأنه يقول فيهن وفي غيرهنَّ. وهو قول قتادة، وعطاء الخراساني، والزهري وسفيان الثوري، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غَزَا هَوازن بحُنين، وثقيفاً بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال الآخرون: إنه غير منسوخ: قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح: ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يُقاتلُوا فيها وما نسخت. قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلنَّسِىۤءُ زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ } ، قيل: هو مصدر كالسعير والحريق. وقيل: هو مفعول كالجريح والقتيل، وهو من التأخير. ومنه النسيئة في البيع، يقال: أنسا الله في أجله أي أخر، وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء، وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري: بتشديد الياء من غير همز، فقد قيل: أصله الهمز فخفف. وقيل: هو من النسيان على معنى المنسي أي: المتروك. ومعنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة، فكان يشقُّ عليهم الكفُّ عن ذلك ثلاثةُ أشهر على التوالي، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم، فنسؤوا، أي: أخّروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخّرون تحريم المحرّم إلى صفر، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخّروه إلى ربيع، هكذا شهراً بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها.

السابقالتالي
2 3