الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ }

قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ } ، أظننتم { أَن تُتْرَكُواْ } ، قيل: هذا خطاب للمنافقين. وقيل: للمؤمنين الذين شقّ عليهم القتال، فقال: أم حسبتم أن تُتركوا فلا تؤمروا بالجهاد، ولا تُمنحوا، ليظهر الصادق من الكاذب، { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ } ، ولم يرَ اللّهُ { ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } ، بطانةً وأولياءً يُوالونَهم ويُفشون إليهم أسرارهم. وقال قتادة: وليجة خيانة. وقال الضحاك: خديعة. وقال عطاء: أولياء. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة، فوليجة الرجل: من يختص بدخيلة أمره دون الناس، يقال: هو وليجتي، وهم وليجتي، للواحد والجمع، { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }. قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ } الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أُسر العباسُ يوم بدرٍ عيَّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علي رضي الله عنه له القولَ. فقال العباس: مالكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟ فقال: نعم، إنّا لَنَعْمرُ المسجدَ الحرام ونحجبُ الكعبةَ ونُسقي الحاج، فأنزل الله عزّ وجلّ رداً على العباس: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ } ، أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله. أوجب على المسلمين منعهم من ذلك، لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده، فمن كان كافراً بالله فليس من شأنه أن يعمرها. فذهب جماعة إلى أنّ المراد منه: العمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمَّته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا تمتثل. وحمل بعضهم العمارة هاهنا على دخول المسجد والقعود فيه. قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام. قرأ ابن كثير وأهل البصرة: { مسجد الله } على التوحيد، وأراد به المسجد الحرام، لقوله تعالى: { وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } ، ولقوله تعالى: { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } ، وقرأ الآخرون: { مَسَاجِدَ اللَّهِ } بالجمع، والمراد منه أيضاً المسجد الحرام. قال الحسن: إنما قال مساجد لأنه قبلة المساجد كلها. قال الفراء: ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البِرْذَوْنَ فيقول: أخذت في ركوب البراذين؟ ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار، يريد الدراهم والدنانير. قوله تعالى: { شَـاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } ، أرادَ وهم شاهدون، فلما طرحت " وهم " نصبت، قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أن كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيتِ عراة، كلما طافوا شوطاً سجدوا لأصنامهم، ولم يزدادوا بذلك من الله تعالى إلاّ بُعْداً. وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يُسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي يقول: أنا يهودي، ويقال للمشرك: ما دينك؟ يقول: مشرك. قال الله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ } ، لأنها لغير الله عزّ وجلّ، { وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه شاهدين على رسولهم بالكفر لأنه ما من بطن وإلا ولدته