الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } * { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

قوله تعالى: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَراً } فخراً وأشَراً، { وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ } ، قال الزجاج: البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها، والرياء: إظهار الجميل لِيُرى وإبطان القبيح، { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }. نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغيٌ وفخرٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللّهم هذه قريشٌ قدْ أقبلتْ بخيلائها وفخرها تُجادِلُكَ وتُكذّبُ رسولَكَ، اللهم فنصرُكَ الذي وعدتني " ، قالوا: لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرزَ عِيرَهُ أرسل إلى قريش أنكم إنّما خرجتُم لتمنعوا عِيْرَكم فقد نجّاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدراً، وكان بدرٌ موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيمَ بها ثلاثاً فننحر الجزور ونُطعم الطعام ونُسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً، فوافوها فسُقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيّه صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ } وكان تزيينه أن قريشاً لما اجتمعت للسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته، فتبدَّى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، { وقال } لهم: { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } ، أي: مجير لكم من كنانة، { فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ } ، أي: التقى الجمعان رأى إبليس أثر الملائكة، نزلوا من السماء وعلم أنه لا طاقة له بهم، { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } ، قال الضحاك: ولّى مدبراً. وقال النضر بن شميل: رجع القهقرى على قفاه هارباً. قال الكلبي: لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة آخذاً بيد الحارث بن هشام، فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفراراً من غيرِ قتالٍ؟ فجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس، فلما قدموا مكّة قالوا: هزم النَّاسَ سُرَاقَةُ فبلغ ذلك سراقة، فقال: بلغني أنكم تقولون إني هزمت الناس، فوالله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغني هزيمتكم! فقالوا: أما أتيتنا في يوم كذا؟ فحلف لهم، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان. وقال الحسن في قوله: { وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } ، قال: رأى إبليس جبريل معتجراً ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده اللجام يقودُ الفرس ما رَكِبَ بعد. وقال قتادة: كان إبليس يقول: إني أرى ما لا ترون وصدق. وقال: { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ } ، وكذب والله وما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم، وذلك عادة عدو الله في من أطاعه، إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم.

السابقالتالي
2