الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا } ، أي: رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لرفعناه بعلمه بها. وقال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات. { وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ } ، أي: سكن إلى الدنيا ومال إليها. قال الزجاج: خلد وأخلد واحد. وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام، يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به، والأرض هاهنا عبارة عن الدنيا، لأن ما فيها من القفار والرباع كلها أرض، وسائر متاعها مستخرج من الأرض. { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } ، انقاد لما دعاه إليه الهوى. قال ابن زيد: كان هواه مع القوم. قال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه، وهذه أشدّ آية على العلماء، وذلك أن الله أخبر أنه آتاه [آية] من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتّباع الهوى تغيير النعمة عليه بالانسلاخ عنها، ومَن الذي يَسْلَمُ من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله؟ أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالله بن أبي توبة أنا محمد بن أحمد بن الحارث، أنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنا عبدالله بن محمود، أنا إبراهيم بن عبدالله الخلال، أنا عبدالله بن المبارك عن زكريّا بن أبي زائدة، عن محمد بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة عن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ذِئْبَانِ جَائعان أُرسلا في غَنَمٍ بأفسدَ لهَا من حرص المرء على المال والشرف لدينه ". قوله تعالى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } ، يقال: لهث الكلب يلهث لهثاً: إذا أدلع بلسانه. قال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به. والمعنى: إن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتدِ، فالحالتان عنده سواء، كحالتي الكلب: إن طرد وحُمل عليه بالطرد كان لاهثاً، وإن تُرك وربَضَ كان لاهثاً. قال القتيبي: كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وفي حال العطش، فضربه الله مثلاً لمن كذّب بآياته، فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث، نظيره قوله تعالى:وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [الأعراف:193]، ثم عمّ بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله، فقال: { ذَٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـآيَـٰتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، وقيل: هذا مثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنّون هادياً يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله، فلما جاءهم نبيّ لا يشكّون في صدقه كذّبوه فلم يهتدوا وتُركوا أو دُعوا.