الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قوله عزّ وجلّ: { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا } ، أي: للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه. قال أهل التفسير: إن موسى تطهَّر وطهَّر ثيابه لميعاد به فلما أتى طور سيناء. وفي القصة: إن الله عزّ وجلّ أنزل ظلمة على سبعة فراسخ وطرد عنه الشيطان وطرد عنه هوام الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء ورأى الملائكة قياماً في الهواء ورأى العرش بارزاً وكلمه الله وناجاه حتى أسمعه، وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلّمه ربّه وأدناه حتى سمع صرير القلم فاستحلى موسى عليه السلام كلام ربه واشتاق إلى رؤيته، { قَالَ رَبِّ أَرِنِىۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } ، قال الزجاج: فيه اختصار تقديره أرني نفسك أنظر إليك. قال ابن عباس: أعطني النظر إليك. فإن قيل: كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله تعالى لا يُرى في الدنيا؟ قال الحسن: هاج به الشوق فسأل الرؤية. وقيل: سأل الرؤية ظناً منه أنه يجوز أن يُرى في الدنيا { قَالَ } الله تعالى: { لَن تَرَانِى } ، وليس لبشر أن يطيق النظر [إلَيَّ في الدنيا من نظر إليّ] في الدنيا مات، فقال: إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحبّ إليّ من أن أعيش ولا أراك، فقال الله عزّ وجلّ: { وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } ، وهو أعظمَ جبل بمدين يقال له زبير. قال السدي: لمّا كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى، فوسوس إليه وقال: إن يكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى الرؤية، فقال الله عزّ وجلّ: { لَن تَرَانِى } ، وتعلقت نفاة الرؤية بظاهر هذه الآية، وقالوا: قال الله تعالى { لَن تَرَانِى } ، ولن تكون للتأبيد، ولا حجّة لهم فيها، ومعنى الآية: لن تراني في الدنيا أو في الحال، لإنه كان يسأل الرؤية في الحال و " لن " لا تكون للتأبيد كقوله تعالىٰ:وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } [البقرة: 95]، إخباراً عن اليهود، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنّون الموت في الآخرة كما قال الله تعالى:يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [الزخرف: 77]،يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } [الحاقة: 27]، والدليل عليه أنه لم ينسبه إلى الجهل بسؤال الرؤية وأنه لم يقل إني لا أُرى حتى تكون لهم حجة بل علّق الرؤية على استقرار الجبل واستقرار الجبل عند التجلّي غير مستحيل إذا جعل الله تعالى له تلك القوّة، والمُعلَّق بما لا يستحيل لا يكون محالاً. قال الله تعالى: { وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى } ، قال وهب وابن إسحاق: لما سأل موسى ربّه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق وأحاط بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب، وأمر الله ملائكة السماء أن يعترضوا على موسى فمرّت به ملائكة السماء الدنيا كثيرَانِ البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد، ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه واعترضوا عليه أمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس، ففزع العبد الضعيف ابن عمران ممّا رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده، ثم قال: لقد ندم على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبِرْ لِما سألت، فقليلٌ من كثيرٍ ما رأيتَ.

السابقالتالي
2 3