الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } * { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } * { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

وأمّا قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } فاعلم أن الإدراك غير الرؤية لأن الإدراك هو: الوقوف على كُنهِ الشيء والإحاطة به والرؤية: المعاينة، وقد تكون الرؤية بلا إدراك، قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام:فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ } [الشعراء: 61 - 62]، وقال:لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ } [طه: 77]، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فالله عزّ وجلّ يجوز أن يُرى من غير إدراك وإحاطة كما يُعرف في الدنيا ولا يُحاط به، قال الله تعالى:وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه: 110]، فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم، قال سعيد بن المسيَّب: لا تُحيط به الأبصار، وقال عطاء: كلّتْ أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، وقال ابن عباس ومقاتل: لا تُدركه الأبصار في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة، قوله: { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ } ، لا يخفَى على الله شيء ولا يفوته، { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: اللطيف بأوليائه [الخبير بهم، وقال الأزهري: معنى { اللطيف } ] الرفيق بعباده، وقيل: اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق، وقيل: اللطيف الذي يُنسي العبادَ ذنوبَهم لئلا يخجلوا، وأصل اللطف دقّة النظر في الأشياء. قوله عزّ وجلّ: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } ، يعني: الحجج البيّنة التي تبصرون بها الهُدى من الضلالة والحق من الباطل، { فَمَنْ أَبْصَرَ فلِنَفْسِه } ، أي: فمن عرفها وآمن بها فلنفْسِهِ عَمِلَ، ونفعُه له، { وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا } ، أي: من عمي عنها فلم يعرفها ولم يصدقها فعليها، أي: فبنفسه ضرَّ، ووبال العمى عليه، { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ، برقيب أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالاتِ ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلأَيَـٰتِ } ، نفصّلها ونبيّنها في كل وجه، { وَلِيَقُولُواْ } ، قيل: معناه لئلا يقولوا، { دَرَسْتَ } ، وقيل: هذه اللام لام العاقبة أي عاقبة أمرهم أن يقولوا: { دَرَسْتَ } ، أي: قرأت على غيرك، وقيل: قرأت كتب أهل الكتاب كقوله تعالى:فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8]، ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن أراد أن عاقبة أمرهم أن كان عدواً لهم. قال ابن عباس: وليقولوا يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن درستَ، أي: تعلمتَ من يسار وجبر كانا عبدين من سبي الروم، ثم قرأتَ علينا تزعم أنه من عند الله، من قولهم: درست الكتاب أدْرس درساً ودراسة. وقال الفراء: يقولون: تعلّمت من يهود، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " دارست " ، بالألف [أي: قارأتَ أهل الكتاب من المدارسة بين اثنين تقول:] قرأت عليهم وقرؤوا عليك، وقرأ ابن عامر ويعقوب: " دَرَسَتْ " بفتح السين وسكون التاء، أي: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة، قد درست وانمحت، من قولهم: درس الأثر يدرس دروساً. { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، قال ابن عباس: يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد، وقيل: يعني أن تصريف الآيات ليشقى به قوم ويسعد به آخرون، فمن قال درست فهو شقي، ومن تبيّن له الحق فهو سعيد