الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ }

{ كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ، يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم، { قَرِيباً } ، يعني مشركي مكة، { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } ، يعني القتل ببدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع. وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان. { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، ثم ضرب مثلاً للمنافقين واليهود جميعاً في تخادلهم فقال: { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } ، أي: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان { إِذْ قَالَ لِلإِنسَـٰنِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىۤءٌ منك }. وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال: كان راهب في الفترة يقال له " برصيصا " تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمر الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أجد أحداً منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض - وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم، جاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على جهة الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند - فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة. فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك ناديتني وكنت مشتغلاً عنك، فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيباً إن استجاب لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً بعدها، فلما انفتل رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته، فأقام معه حولاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوماً مرة، وربما مد إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض. فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة، فلم يَزل به الأبيض حتى علمه.

السابقالتالي
2 3