الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } * { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } * { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } * { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }

{ فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ } ، من رياش الدنيا، { فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } ، ليس من زاد المعاد، { وَمَا عِندَ ٱللهِ } ، [من الثواب]، { خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، فيه بيان أن المؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع قليل لهما يتمتعان بها فإذا صارا إلى الآخرة كان ما عند الله خيرٌ للمؤمن. { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإِثْمِ } قرأ حمزة والكسائي: " كبير الإثم " على الواحد هاهنا، وفي سورة النجم، وقرأ الآخرون: " كبائر " بالجمع، وقد ذكرنا معنى الكبائر في سورة النساء. { وَٱلْفَوَٰحِشَ } ، قال السدي: يعني الزنا. وقال مجاهد ومقاتل: ما يوجب الحدّ. { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } ، يحلمون ويكظمون الغيظ ويتجاوزون. { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } ، أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته، { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } ، يتشاورون فيما يبدوا لهم ولا يعجلون { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }. { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ } ، الظلم والعدوان، { هُمْ يَنتَصِرُونَ } ، ينتقمون من ظالميهم من غير أن يعتدوا. قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن ظالميهم فبدأ بذكرهم، وهو قوله { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } ، وصنف ينتصرون من ظالميهم، وهم الذين ذكروا في هذه الآية. قال إبراهيم في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا. قال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم، ثم ذكر الله الانتصار فقال: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ، سمى الجزاء سيئة وإن لم تكن سيئة لتشابههما في الصورة. قال مقاتل: يعني القصاص في الجراحات والدماء. قال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله تقول: أخزاك الله، وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي. قال سفيان بن عيينة: قلت لسفيان الثوري ما قوله عزّ وجلّ: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }؟ قال: أن يشتمك رجل فتشتمه، وأن يفعل بك فتفعل به، فلم أجد عنده شيئاً، فسألت هشام بن حجيرة عن هذه الآية؟ فقال: الجارح إذا جرح يُقتص منه، وليس هو أن يشتمك فتشتمه. ثم ذكر العفو فقال: { فَمَنْ عَفَا } ، عمن ظلمه، { وَأَصْلَحَ } ، بالعفو بينه وبين ظالمه، { فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللهِ } ، قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: من كان له على الله أجر فليقم. فلا يقوم إلا من عفا، ثم قرأ هذه الآية. { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ } ، قال ابن عباس: الذين يبدؤون بالظلم. { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } ، أي: بعد ظلم الظالم إياه، { فَأُوْلَـٰئِكَ } ، يعني المنتصرين، { مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } ، بعقوبة ومؤاخذة. { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ } ، يبدؤون بالظلم، { وَيَبْغُونَ فِى ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } ، يعملون فيها بالمعاصي، { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } ، فلم ينتصر، { إِنَّ ذَلِكَ } ، الصبر والتجاوز، { لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } ، حقها وجزمها. قال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها. قال الزجَّاج: الصابر يؤتى بصبره الثواب فالرغبة في الثواب أتم عزماً.