الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } * { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }

قوله عزّ وجلّ: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } أي: ينزل بكم الموت، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أُحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فردَّ الله عليهم بقوله: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } ، { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } ، والبروج: الحصون والقلاع، والمشيّدة: المرفوعة المطوّلة، قال قتادة: معناه في قصورٍ محصنة، وقال عكرمة: مُجَصَّصة، والشّيد: الجص، { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } ، نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم قالوا لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة: ما زِلْنَا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال الله تعالى: { وَإِن تُصِبْهُمْ } يعني: اليهود { حَسَنَةٌ } أي خصب ورخص في السعر، { يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } ، لنا، { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يعني: الجدب وغلاء الأسعار { يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } أي: من شؤم محمد وأصحابه، وقيل: المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أُحد، يقولوا هذه من عندك أي: أنت الذي حملتنا عليه يا محمد، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين، { قُلْ } ، لهم يا محمد، { كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } ، أي: الحسنة والسيئة كلها من عند الله، ثم عيّرهم بالجهل فقال: { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ } يعني: المنافقين واليهود، { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } أي: لا يفقهون قولاً، وقيل: الحديث هاهنا هو القرآن أي: لا يفقهون معاني القرآن. قوله: { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ } قال الفراء: كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهّمُوا أنّ اللاّم متصلة بها وأنّهما حرف واحد، ففصلوا اللاّم ممَّا بعدها في بعضه، ووصلوها في بعضه، والاتصال القراءة، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة. قوله عزّ وجلّ: { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } ، خير ونعمة { فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَـٰبَكَ مِن سَيِّئَةٍ } ، بليّةٍ أو أمر تكرهه، { فَمِن نَّفْسِكَ } ، أي: بذنوبك، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم والمراد غيره، نظيره قوله تعالى:وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30] ويتعلّق أهل القَدَر بظاهر هذه الآية، فقالوا: نفى الله تعالى السيئةَ عن نفسه ونسبها إلى العبد، فقال: { وَمَآ أَصَـٰبَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } ، ولا متعلق لهم فيه، لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ولا سيآته من الطاعات والمعاصي، بل المراد منه ما يُصيبهم من النِّعم والمِحنَ، وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم، فقال: { مَّآ أَصَابَكَ } ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني، إنّما يقال: أصبتها، ويقال في النِّعَم: أصابني، بدليل أنه لم يذكر عليه ثواباً ولا عقاباً، فهو كقوله تعالى:فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [الأعراف: 131]، ولما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه، ووعد عليها الثواب والعقاب، فقال

السابقالتالي
2