الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }

قوله عزّ وجلّ: { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } ، يُخاطب اليهود، { ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } ، يعني: القرآن، { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } ، يعني: التوراة. " وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كلَّم أحبار اليهود: عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف، فقال: «يا معشر اليهود اتقُوا الله وأسلموا، فوالله إنّكم لتعلمون أنّ الذي جِئْتُكم به لحق»، قالوا: ما نعرف ذلك، وأصرّوا على الكفر، فنزلت هذه الآية " { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً }. قال ابن عباس: نجعلها كخف البعير، وقال قتادة والضحاك: نُعميها، والمراد بالوجه العين، { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهَآ } ، أي: نطمسُ الوجوه فنرده على القفا، وقيل: نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة، لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم، وقيل: معناه نمحو آثارها وما فيها من أنف وعين وفم وحاجب فنجعلها كالأَقفاء، وقيل: نجعل عينيه على القفا فيمشي قهقرى. روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لمّا سَمِعَ هذه الآية جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله، ويده على وجهه، وأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وكذلك كعب الأحبار لمّا سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه، فقال: يا رب آمنتُ، يا رب أسلمتُ، مخافة أن يصيبَهُ وَعِيدُ هذه الآية. فإن قيل: قد أوعدهم الله بالطمس إن لم يُؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يُفعل بهم ذلك؟. قيل: هذا الوعيد باقٍ، ويكون طمسٌ ومسخٌ في اليهود قبل قيام الساعة. وقيل: كان هذا وعيداً بشرط، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع ذلك عن الباقين. وقيل: أراد به القيامة، وقال مجاهد أراد بقوله: { نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أي: نتركهم في الضلالة، فيكون المراد طمس وجه القلب، والردّ عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة. وأصل الطمس: المحو والإِفساد والتحويل، وقال ابن زيد: نمحُو آثارَهم من وجوههم ونواحيهم التي هم بها فنردّها على أدبارهم حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه بدءاً وهو الشام، وقال: قد مضى ذلك، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـٰبَ ٱلسَّبْتِ } ، فنجعلهم قردة وخنازير، { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }.