الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } * { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ }

قوله عزّ وجلّ: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـٰنَ } ، اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه. وكان سبب ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان عليه السلام بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون، بها ملك عظيم الشأن، لم يكن للناس إليه سبيلاً لمكانه في البحر، وكان الله قد آتى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإِنس، فقتل ملكها واستولى واستفاء وسَبى ما فيها، وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك، يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسناً وجمالاً، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإِسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك، قال سليمان: فقد أبدلك الله به مُلكاً هو أعظم من مُلكه، وسلطاناً هو أعظم من سلطانه، وهداك للإِسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك كذلك، ولكني إذا ذكرتُهُ أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يُذهِبَ ذلك حزني، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئاً، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرتهُ وقمّصتهُ وعمّمته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له، ويسجدن له كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً، وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صديقاً، وكان لا يُرَد عن أبواب سليمان، أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل، حاضراً كان سليمان أو غائباً، فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني، ورق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، فقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأُعَلِّمُ الناسَ بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى، فأثنى على كل نبي بما فيه، فذكر ما فضله الله حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما أحلمك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما تكره في صغرك، ثم انصرف، فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى ملأه غضباً، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه.

السابقالتالي
2 3 4 5