الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } * { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } * { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } * { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } * { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ }

{ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ } ، أي: أمتنعُ وأعتصمُ بك، { مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ } ، قال ابن عباس: نزغاتهم. وقال الحسن: وساوسهم. وقال مجاهد: نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني: دفعهم بالإِغواء إلى المعاصي، وأصل الهمزة شدة الدفع. { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } ، في شيء من أموري، وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوسه. ثم أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت، فقال: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } ، ولم يقل ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة، على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم، كما أخبر الله تعالى عن نفسه فقال:إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ } [الحجر: 9]، ومثله كثير في القرآن. وقيل: هذا الخطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه ابتداء بخطاب الله لأنهم استغاثوا بالله أولاً ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا. قوله تعالى: { لَعَلِّىۤ أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } ، أي: ضيّعتُ أن أقولَ لا إله إلا الله. وقيل: أعمل بطاعة الله. قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فرحم الله امرءاً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب، { كَلاَّ } ، كلمة ردع وزجر، أي: لا يرجع إليها، { إِنَّهَا } يعني: سؤاله الرجعة، { كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } ، ولا ينالها، { وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ } ، أي أمامهم وبين أيديهم حاجز، { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، والبرزخ الحاجز بين الشيئين، واختلفوا في معناه هاهنا، فقال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. وقال قتادة: بقية الدنيا. وقال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل: هو القبر، وهم فيه إلى يوم يبعثون. { فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـابَ بَيْنَهُمْ } ، اختلفوا في هذه النفخة، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنها النفخة الأولىوَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ } [الزمر: 68] { فَلاَ أَنسَـابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } ،ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر: 68]وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27]. وعن ابن مسعود: أنها النفخة الثانية، قال: يؤخذ بيد العبدِ والأَمَةِ يوم القيامة فيُنصبُ على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي منادٍ: هذا فلان ابن فلان، فمن كان له قِبَله حق فليأت إلى حقه، فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده وولده وزوجته أو أخيه فيأخذ منه، ثم قرأ ابن مسعود " فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون ". وفي رواية عطاء عن ابن عباس. أنها الثانية فلا أنساب بينهم أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا، ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا: مَنْ أنت ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أن الأنساب تنقطع. فإن قيل: أليس قد جاء في الحديث " كل سبب ونسب ينقطع إلا نسبي وسببي " قيل: معناه لا يبقىٰ يوم القيامة كل سبب ولا نسب إلا نسبه وسببه، وهو الإِيمان والقرآن.فإن قيل: قد قال هاهنا { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } وقال في موضع آخر:وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27]؟. الجواب: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن للقيامة أحوالاً ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف، فيشغلهم عِظمُ الأمرِ عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقةً فيتساءلون.