الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } * { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }

قوله عز وجل: { وَمِنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ } ، أي وسخرنا له من الشياطين، { مَن يَغُوصُونَ لَهُ } ، أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر، { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَٰلِكَ } ، أي دون الغوص، وهو ما ذكر الله عزّ وجلّ:يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـٰرِيبَ وَتَمَـٰثِيلَ } [سبأ: 13] الآية. { وَكُنَّا لَهُمْ حَـٰفِظِينَ } ، حتى لا يخرجوا عن أمره. وقال الزجاج: معناه حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا. وفي القصة أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً، قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل أشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل، وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوا وأفسدوه. قوله عز وجل: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } ، أي دعا ربه. قال وهب بن منبه: كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيس بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من أولاد لوط بن هاران، وكان الله قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البَثَنية من أرض الشام، كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله، من البقر والإِبل والغنم والخيل والحمر ما لا يكون لرجل أفضل منه من العدة والكثرة، وكان له خمسمائة فدان، يتبعها خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال، ويحمل آلة كل فدان أتان لكل أتان ولد من اثنين وثلاثة أربعة وخمسة، وفوق ذلك وكان الله عز وجل أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان براً تقياً رحيماً بالمساكين، يطعم المساكين ويكفل الأرامل والأيتام، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكراً لأنعم الله مؤدياً لحق الله، قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغِرَّة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من أهل اليمن يقال: اليقن، ورجلان من أهل بلده يقال لأحدهما يلدد والآخر صافر وكانوا كهولاً، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى فحجب عن أربع سموات، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقية، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عمّا هو عليه من شكرك وعبادتك، ولخرج من طاعتك، قال الله تعالىٰ: انطلق فقد سلطتك على ماله فانقضَّ عدوُ الله إبليس حتى وقع إلى الأرض، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين، وقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ فإني قد سُلِّطتُ على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين أُعطيتُ من القوة ما إذا شئت تحولتُ إعصاراً من نار وأحرقتُ كلَّ شيءٍ آتي عليه، قال له إبليس: فأتِ الإِبل ورعاءَها، فأتىٰ الإِبلَ حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصارٌ من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق فأحرق ورعاءَها، حتى أتى على آخرها، ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحةٍ على قعود إلى أيوب فوجده قائماً يصلي، فقال: يا أيوب أقبلتْ نار حتى غَشِيَتْ إبلَكَ فأحرقتْها ومَنْ فيها غيري، فقال أيوب: الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها، وقديما ما وطنت مالي ونفسي على الفناء، فقال إبليس: فإنَّ ربَّك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت فتركتِ الناسَ مبهوتين يتعجبون منها، منهم من يقول ما كان أيوب يعبدُ شيئاً وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ذلك ليشمت به عدوه ويفجع صديقه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6