الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }

{ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ } ، أي صاروا إليه، واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف: فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج أهل الإِنجيل، وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له " دقيانوس " عبد الأصنام وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه، وكان ينزل قرى الروم، ولا يترك في قرية نزلها أحداً إلا فتنة حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت أو قتله، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وهي " أفسوس " ، فلما نزلها كبر على أهل الإِيمان، فاستخفَوا منه، وهربوا في كل وجه، وكان " دقيانوس " حين قدمها أمر أن يتبع أهل الإِيمان فيجمعوا له، واتخذ شرطاً من الكفار من أهلها، يتَّبعون أهل الإِيمان في أماكنهم فيخرجونهم إلى " دقيانوس " ، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل. فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسادهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة، فلما رأى ذلك الفتيةُ حزنوا حزناً شديداً، فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء، وكانوا من أشراف الروم، وكانوا ثمانية نفر، بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون: ربنا رب السموات والأرض، لن ندعو من دونه إلهاً، لقد قلنا إذاً شططاً إن عبدنا غيره، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة، وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك، فبينما هم على مثل ذلك. وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم، يبكون ويتضرعون إلى الله، فقالوا لهم: ما خلّفكم عن أمر الملك؟ انطلِقوا إليه، ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى " دقيانوس " ، فقالوا: تجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك! فلما سمع بذلك بعث إليهم، فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفَّرة وجوههم بالتراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة لسادات من أهل مدينتكم؟ اختاروا: إما أن تذبحوا لآلهتنا، وإما أن أقتلكم، فقال مكسلمينا وهو أكبرهم: إنَّ لنا إلهاً ملأ السموات والأرض عظمة، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً، إيّاه نعبد وإيّاه نسأل النجاة والخير، فأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً، فاصنع بنا ما بدا لك، وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال مكسلمينا، فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوساً كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثم قال: سأفرغ لكم فأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلاّ أني أراكم شباناً حديثة أسنانكم، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم، ثم أمر بهم فأُخرِجوا من عنده.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8