الرئيسية - التفاسير


* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

قوله تعالى: { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ } ، وهما غلامان كانا للريان بن الوليد بن مروان العمليق ملك مصر الأكبر، أحدهما: خبَّازه وصاحب طعامه، والآخر: ساقيه وصاحب شرابه. غضب الملك عليهما فحبسهما. وكان السبب فيه: أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله، فضمنوا لهذين مالاً، ليسمَّا الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم ثم إن الساقي نكل عنه، وقبل الخباز الرشوة فسّم الطعام، فلما أحضر الطعام والشراب. قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم، وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم. فقال الملك للساقي: اشرب فشربه فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك، فأبى فجرب ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما. وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلمّ فلنجرب هذا العبد، فَتَرَاءَيا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً، قال ابن مسعود: ما رأيا شيئاً وإنّما تحالَما ليجرِّبَا يوسف. وقال قوم: بل كانا رأيا حقيقة، فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما، فذكرا أنهما صاحبا الملك، وحبسهما، وقد رأيا رؤيا غمتهما. فقال يوسف: قُصّا عليّ ما رأيتُما، فقصَّا عليه. { قَالَ أَحَدُهُمَآ } ، وهو صاحب الشراب، { إِنِّىۤ أَرَانِىۤ أَعْصِرُ خَمْراً } ، أي: عنباً، سمي العنب خمراً باسم ما يؤول إليه، كما يقال: فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبِنَ للآجر. وقيل: الخمر العنب بلغة عمان، وذلك أنه قال إني رأيتُ كأني في بستان، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه. { وَقَالَ ٱلأَخَرُ } ، وهو الخباز: { إِنِّىۤ أَرَانِىۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ } ، وذلك أنه قال: إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه. { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } ، أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤل إليه أمر هذه الرؤيا. { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } ، أي: العالمِين بعبارة الرؤيا، والإِحسان بمعنى العلم. ورُوي أن الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله: { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } ، ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه، وإذا ضاق عليه المجلس وسع له، وإذا احتاج جمع له شيئاً، وكان مع هذا يجتهد في العبادة، ويقوم الليل كله للصلاة. وقيل: إنه لما دخل السجن وجد فيه قوماً قد اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يُسلّيهم ويقول: أبشروا واصبروا تؤجروا، فيقولون: بارك الله فيك، يافتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك، لقد بورك لنا في جواركَ فمن أنت يافتى؟ قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: يافتى والله لو استطعت لخلَّيْت سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فتمكن في أيّ البيوت من السجن شئت.

السابقالتالي
2